نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

الحريرية والمظلوميات الثلاث

لم ترتدِ انتخابات بلدية في لبنان، منذ ما بعد الطائف، الأهمية التي ارتدتها الجولة الأولى، والتي جرت في البقاع وبيروت.
كل الهياكل السياسية خرجت بجروح وكدمات. حزب الله خسر رئاسة بلدية الهرمل، التي تعد أحد أبرز معاقله. وبصعوبة بالغة، تجاوز اختبار انتخابات بلدية بعلبك.
مسيحيًا، لم ينجح ائتلاف الأحزاب المسيحية بالقول إنه البديل الكاسح و«اللاغي» للآخرين، حتى في المناطق التي فاز فيها، وتحديدًا في زحلة، مما يعني سقوط الادعاء بأنه صاحب الصفة التمثيلية الحصرية بتسمية الرئيس المسيحي للبنان!
ولكن لأنها بيروت، كان الاعتراض الأوضح هو ذاك الاعتراض الصامت على الحريرية السياسية!
لجأ الناخب إلى مزيج من العزوف العقابي (عدم التصويت)، والتصويت العقابي للائحة شبابية حملت عنوان «بيروت مدينتي». وبحسب مصدر في اللائحة، فإن نحو ثلث أصوات هذه اللائحة جاء من جمهور الحريرية الغاضب والمستاء!
لنترك جانبًا مسؤوليات حلفاء الحريري عن نتائج المعركة، والمبالغات حولها. أعتقد أن ما قالته صناديق الاقتراع هو انتهاء فعالية ثلاث مظلوميات، قامت عليها الحريرية بمراحلها المختلفة منذ عام 2005. الأولى: مظلومية الرئيس الراحل رفيق الحريري.
آن الأوان لمصارحة تقول إن هذه المظلومية استنزفت. من كان بعمر 10 سنوات عام 2005، صار شابًا بعمر 21 سنة اليوم. له حساباته ومصالحه ومخاوفه ومستقبله. وهو يريد أن يحب سعد الحريري أو لا يحب سعد الحريري. يصوت له أو ضده.
خذ مثلاً شعار «زي ما هي»، أي وضع لائحة الحريري من دون تعديل في صندوق الاقتراع، الذي كان عنوان معركة مصيرية خاضها الحريري الأب، بدا في المعارك الأخيرة تكرارًا محضا، بل ربما معاكسًا للمعنى الأصلي.
الأهم أن التجربة النضالية المشرفة التي قادها سعد الحريري، وجمهوره وحلفاؤه، لم تخذل رفيق الحريري وحقه ودمه. فكانت المحكمة الخاصة بلبنان، ومن ثم انعقاد أولى الجلسات وقراءة القرار الاتهامي. المفارقة أنه بدل إسدال الستار على راحلنا الكبير، واستئناف السياسة من مكان بعيد عن الضريح، أسدلنا نصف ستارة على الخلاف مع قتلته، وذهبنا معهم إلى حكومة مشتركة!
مظلومية عدوان ميليشيا حزب الله: على الدوام ظلت الحريرية عنوان مواجهة مع سلاح حزب الله، وصل إلى ذروته في اعتداء السلاح على لبنان واللبنانيين في 7 مايو (أيار) 2008.
بهذا المعنى، أحسب أن المصدر الرئيسي لفقدان هذا التوازن السياسي، يكمن في الاستماتة «النبيلة» لتأجيل الاشتباك مع جذر الأزمة اللبنانية الراهنة، وهو سلاح حزب الله. المقاربة التأجيلية، وهي لها أسبابها الكثيرة، واستبدال تعايش هزيل مع السلاح وحزبه بها، مقرونة بغياب أي نشاط تنموي، يماثل تجربة ثنائية المقاومة - الإعمار، واستنزاف كل المبادرات التسووية، هذه العناصر تجعل المواجهة مع حزب الله ليست كما ينبغي.
الخطأ التكتيكي الخطير في معركة بيروت هو وليد هذه النقطة. إذا إنه يكمن في تفريغ المعركة من أبعادها السياسية، تحويلها إلى معركة تنموية!
مظلومية الثورة السورية: من مصادر الحالة الشعبية للحريرية، الالتصاق بوهج الثورة السورية منذ بدايتها، والاستثمار في مظلوميتها، من موقع المصير المشترك. جاءت الثورة وشكلت له رافعة مهمة، وزودته بقضية جديدة، بعد أن كانت الظروف في المنطقة قد أخذته بعيدًا في محاولات التسوية مع حزب الله ونظام بشار الأسد!
ما انتهت إليه الثورة السورية، وما أفرزته من ملفات ضاغطة وتفجيرية على لبنان، لا سيما ملف النازحين، وغياب أي أفق «وردي» للثورة ولسوريا، عطل جاذبية هذا العنوان، وحوله إلى عبء على رافعي لوائه.
بإزاء نفاد المظلوميات الثلاث، أعتقد أن أخطر خسارة للمسار السياسي، هي خسارة الصفة التمثيلية للحداثة السياسية. طبعًا ليس مطلوبًا من تيار معين وليس على عاتقه وحده تحديث «العقل» الانتخابي بجعل الانتخابات البلدية محررة من «قيد مسقط الرأس»، وربطها بصلات حديثة بالمدينة.
لكن فائض الإصرار على معنى «متخلف» للصلة بالمدينة، الذي عبّر عنه عنوان «البيارتة»، والذي فرضه الاعتقاد بفائض الحاجة لمحاكاة عصبية أهلية صافية، هو خسارة كبيرة.
صحيح أن البلديات في عموم لبنان تخضع لمنطق العصبيات الأهلية، ومن التجني مطالبة الحريرية بتفرد قد يودي بها سياسيًا، لكن مشكلتي مع الفائض الأهلي الذي استُخدم في العنوان. تسميتها مثلاً لائحة بيروت، كان أفضل بكثير.
لماذا تخصيص الحريرية؟!
لأنها في العمق صاحبة أكبر تمثيل مسلم سني معتدل. وهو التمثيل الأكثر حاجة لأن يراعي صورته ومضمونه الحديث.
خسارة الحادثة السياسية ليست لعبة بسيطة في مصير الحريرية.
الاعتراض عليها، يعني أن الحريرية لا تزال تشكل عامل اطمئنان للناس، وهم لن يستبدلوها كيفما كان وعند أول بديل يلوح على الساحة! وأن رمزية رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري لا تزال قوية في وجدان جمهوره، في الوقت الذي يضعه جمهوره أمام اختبار إعادة ابتكار الذات السياسية.