خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

احتفالاً بالأخوات الثلاث

يحتفل العالم الغربي في هذه الأيام بذكرى المائتي سنة للأخوات الثلاث شارلوت وإميلي وآن برونتي. وفي بلدهن الأصلي، إنجلترا، تضج الصحافة والبرامج التلفزيونية والسينمائية بقصة حياتهن وإنتاجهن الروائي.
لا أكتب هذه المقالة من باب المشاركة في الاحتفال. لقد انصبت مشاركتي في قراءة إحدى رواياتهن، «جين ئير» للمؤلفة الشابة شارلوت. ما زلت أقرأ وأتأمل فيها، ولكنني وأنا أمضي في صفحاتها حصلت مقدمًا على انطباع مهم يعنى قراء هذه الصحيفة، بل والقراء العرب عمومًا.
قضت الأخوات الثلاث حياة تعيسة من الحرمان والفقر والكبت. نشأن يتيمات من الأم وعشن عيشة كفاف في ظل والدهن القس المتزمت. قضين حياتهن محرومات من الحب والزواج والإنجاب. ولكنهن كرسن وقتهن للقراءة والاستزادة وكتبن روايات هزت المجتمع الغربي في تعاملها مع العواطف وحياة المرأة والتوجه لانتقاد المجتمع والدعوة لتحرر المرأة. فقصة «جين ئير» هي قصة البنت اليتيمة المحرومة والدميمة التي استطاعت بجهودها واجتهادها الارتقاء لمعلمة ناجحة وسيدة راقية.
أثارت رواية «جين ئير» التي أعاد تقديمها التلفزيون البريطاني مؤخرًا، تفكيري بشأن تراثنا الأدبي الذي لا يكاد يضم غير قصائد المديح والنسيب والهجاء. هذا على الأقل ما فرض علينا تعلمه وحفظه في مدارسنا.
في هذه الرواية، التي تدرس في المدارس البريطانية والأميركية، والتي كتبت في أوائل القرن التاسع عشر، أي قبل نحو مائتي سنة، تعرضت الكاتبة شارلوت برونتي إلى حياة طفلة يتيمة، جين ئير، نشأت علة على ذويها الذين اضطهدوها وأجاعوها وحرموها من كل أطايب الحياة. ثم أودعوها في ميتم متخلف للبنات اليتيمات. تصف الكاتبة الأحوال التعيسة لهذا «الميتم» ومعاملته السيئة لتلميذاته وتنتهي في سردها لابتلاء الميتم بالأمراض، السل الرئوي والتيفوس، حتى انتبهت السلطات إلى كارثة هذه المدرسة فبادر المسؤولون إلى التحقيق في الأمر وقرروا طرد مديرة المدرسة والمفتش المسؤول عن أحوالها. وهدموا تلك البناية السيئة وأمروا بتشييد مدرسة جديدة تراعي المتطلبات الصحية والنفسية للنزيلات اليتيمات.
توقفت هنا ورحت أسأل نفسي. هذه رواية كتبتها فتاة محرومة قبل مائتي سنة واسترسلت فيها إلى التعرض لأحوال مجتمعها، وصفًا وتقريضًا وتنبيهًا لضرورات الإصلاح المطلوب. فضلاً عن ذلك، وجد النقاد في الرواية دعوة رائدة في حركة تحرر المرأة. لا أريد أن أتساءل وأقول لم حرمت نساؤنا من مثل هذه المساهمة الأدبية طوال تاريخنا؟ دعنا من ذلك ولكنني أتساءل عن مجموع ما تلقيناه من أدب ومؤلفات رجالنا؟
كتبت هذه الرواية في مطلع الثورة الصناعية في بريطانيا وما تمخضت عنه من حركات إصلاحية واجتماعية أدت إلى القيام بما يلزم من تعديلات في المسار. وفي «جين ئير» نرى هذه الاستجابة السريعة من لدن السلطات التعليمية التي استجابت للنقد وأسرعت لإصلاح العيب وإحقاق الحقوق. وكل ذلك قبل مائتي سنة يا سادتي.