إدوارد جيرجيان
مدير معهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس - السفير الأميركي الأسبق لدى كل من سوريا وإسرائيل، ومساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط.
TT

استراتيجية نحو هزيمة «داعش»

لقد تجاهلت الأغلبية ردود الفعل للهجمات المروعة لـ«داعش» في ولاية كاليفورنيا وباريس وبيروت وسيناء، أهمية البعد الاستراتيجي في الصراع ضد الجماعات المتطرفة العنيفة. إلا أن هذه الهجمات قد أكدت ظهور بُعد جديد لخطورة «داعش»؛ مما يتيح فرصة جديدة لتعاون المجتمع الدولي مع دول الشرق الأوسط للتصدي لهذه المنظمة الإرهابية واحتوائها ثم هزيمتها.
يشكل «داعش» تهديدات متباينة لكل بلاد الشرق الأوسط، بل وللمجتمع الدولي بأسره. ويتيح وجود مثل هذا العدو المشترك إمكانية لوضع استراتيجية محكمة وبناء تحالف دولي لاحتواء وتدمير الهيكل القيادي لهذا التنظيم الإرهابي الذي يحتل أراضي في سوريا والعراق، والذي قد ثبت التوسع الدولي لعملياته بشكل مأساوي في هجمات باريس. ولكن نجاح الحملة ضد «داعش» ليس مضمونًا، وسوف يتطلب منا فهمًا أفضل لهذا التنظيم مع وضع استراتيجية متوازنة مبنية على الدروس المستفادة في مواجهة التطرف العنيف بعد هجمات سبتمبر (أيلول) 2001. ويجب أن يُبنى هذا التحالف الدولي ضد «داعش» بحيث يلتزم كل عضو بالمساهمة الفعالة في تحقيق الهدف، مستخدمًا في ذلك كل سبل الدعم السياسي والاقتصادي والاستخباراتي والعسكري. فلا يمكن لأي عضو في هذا التحالف أن يكون مشاركًا بالاسم فقط أو بقلب ضعيف. وعسى أن يكون التغير الملحوظ في استراتيجية «داعش» في الأسابيع الأخيرة بالضرب خارج «حدودها»، دافعًا لكل دول المنطقة لكي تتفق في رؤاها للتهديد الذي يشكله التنظيم.
ويجب أن تتكون أي استراتيجية محكمة للانتصار على «داعش» من عنصرين؛ أولهما، على المدى القصير، سياسة منسقة بين جميع الأطراف لمكافحة الإرهاب بما في ذلك عسكريًا، وثانيهما، اتجاه في السياسة الجغرافية بعيدة المدى لمعالجة أسباب التطرف في الشرق الأوسط وخارجه.
وفي هذا السياق، علينا أن نفهم أن هناك صراعًا مصيريًا بين قوى الاعتدال والتطرف في سائر المجتمعات الإسلامية، التي تتكون من 1.6 مليار شخص. فهناك صراع فكري على ماهية الوجه الحقيقي للإسلام والمجتمع الإسلامي، ويحاول «داعش» أن يجد لنفسه مكانًا معتبرًا في هذا السجال، إلا أن العنف الدموي لـ«داعش» قد أدين بشدة من سائر المجتمعات المسلمة.
ليس من الممكن للمجتمع الدولي أن يقرر نتيجة هذا الصراع، ولكن بوسعه أن يشجع قوى الاعتدال الموجودة في هذه البلدان والمجتمعات لكي يساعد على تهميش المتطرفين. ولعل التاريخ قد علمنا أن التدخل الغربي في الشرق الأوسط قد ورَّث في أغلب الأحيان آثارًا سلبية (فنذكر على سبيل المثال التقسيم الاستعماري للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقيات سايكس بيكو، والدعم المطلق للأنظمة الاستبدادية ولبعض الجماعات المتشددة أثناء الحرب الباردة، وعواقب غزو العراق عام 2003). لذلك، فإن علينا أن نواجه التحدي الحالي بذكاء. فالمشكلات الهيكلية في هذه البلاد معروفة: ألا وهي عجز في المشاركة السياسية الحقيقية، وفساد النظم التعليمية، واقتصادات لا تفي باحتياجات المجتمع، ثم الفساد الممنهج، واستشراء البطالة بين الشباب وانتهاكات حقوق الإنسان. ولذلك، فيجب أن نبني منهجنا على فهم صحيح للقوى الفاعلة في كل بلد، وأن يكون تعريفنا واضحًا لما ندعمه وما نعارضه في كل حالة. وعلى الولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في هذا الجهد الدولي.
ويمكننا أن نرسم التوجه الاستراتيجي نحو مشكلة التطرف كما يلي:
بغض النظر عن ديانتهم، فإننا نختلف مع كل من يمارس الإرهاب أو يلجأ إلى العنف أو يرفض الحلول السلمية للصراعات أو يمارس قهرًا للأقليات أو ينادي بعدم قبول الآخر أو يرفض التعددية السياسية أو ينتهك حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليًا. بكل وضوح، يجب القول إن الدين لا يحدد طبيعة العلاقات الدولية بين الدول، إيجابًا أو سلبًا. وإنما صراعنا ضد التطرف ذاته وضد العنف وإنكار الحقوق وعدم التسامح والتخويف والقهر والإرهاب الذي يولده ذلك التطرف.
وسنعمل في هذا الإطار لكي نساهم في حل الصراعات الإقليمية وتعزيز الاستقرار في المنطقة. وسنسعى بالجدية نفسها لدعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، مع مراعاة الثقافات والتقاليد المختلفة لمجتمعات ودول المنطقة. هذا هدف بعيد المدى لتدعيم الاقتصاد السياسي في المنطقة والقضاء على جذور التطرف المستغل لحالة الإحباط السائدة.
ويمكننا في إطار هذا التصور الاستراتيجي أن نبين سياسات محددة لتنسيق برامج مكافحة الإرهاب في المدى القصير مع الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى لتهميش المتطرفين. ومن الأهمية بمكان أن نحرز تقدمًا متوازيًا على هذين الصعيدين معًا، وإلا فسنلقى فشلاً سياسيًا في المستقبل. ولذلك يجب الاتفاق بين الولايات المتحدة وحلفائها داخل المنطقة وخارجها على فهم مشترك للاستراتيجية المتبعة وللخطوات المحددة لترجمة الأقوال إلى أفعال. ورغم ضرورة الاحتواء والعمل على تدمير الجماعات المتطرفة مثل «القاعدة» و«داعش» باستخدام الوسائل الحربية والمضادة للإرهاب بكل قوة، فإن هذه السياسة لن تكفي وحدها لتحقيق الهدف الأشمل؛ ألا وهو تهميش القوى المتطرفة في المنطقة. وعلينا أن نتذكر أن المتطرفين قد برعوا في استغلال الدين بشكل فعال كأداة للوصول إلى غايتهم السياسية، ألا وهي زعزعة استقرار وتدمير «العدو القريب» المتمثل في أنظمة الحكم في الشرق الأوسط و«العدو البعيد» المتمثل في المجتمع المدني الدولي. وغاية هؤلاء هي إقامة نظم حكم أو «خلافة» حسب تصورهم لمفهوم الدين. وقد حققت «داعش» بعض النجاح في تجنيد المؤيدين لها بناء على عقيدة «نهاية العالم» التي تعتنقها.
ويشكل الصراع السوري بالتحديد أصعب معضلة للمجتمع الدولي، التي مكنت «داعش» من تشييد مقر رئيسي لها في مدينة الرقة بسوريا، وذلك لأنه من المعضل أن يوجد حل سلمي في سوريا بسبب تباين أهداف القوى السياسية في داخل سوريا وخارجها. وما نحتاجه الآن هو الحد الأدنى لاتفاق كل المشاركين في مبادرة جنيف على مواجهة «داعش» وتدمير قدرتها على التحكم في أراض سورية. ثم يلي ذلك اتفاق على وقف إطلاق النار تبدأ معه عملية انتقال سياسي بالتوافق بين جماعات المعارضة والنظام السوري، مع فهم واضح ألا يكون لبشار الأسد أو كبار مساعديه أي دور بعد انتهاء الفترة الانتقالية، ولكن مع السماح لتمثيل نسبي للعلويين في نظام الحكم المقبل مع بقية الطوائف والأحزاب في سوريا. إذا لم يتم التوصل لهذا الحل فسوف تستمر معاناة الشعب السوري في استمرار الاشتباكات والتهجير والمآسي الإنسانية.
ويتطلب توافق تحالف دولي واسع على استراتيجية كهذه قيادة قوية، وبالأخص من الولايات المتحدة. ولقد أثبتت الأحداث الإرهابية في باريس يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) مرة أخرى أن للاضطرابات العنيفة في سوريا والعراق وبقية المنطقة تداعيات خارج حدود الشرق الأوسط. لكن هذه التداعيات قد ولَّدت فرصة لدبلوماسية استراتيجية جريئة. فروسيا تواجه خطرًا حقيقيًا من التطرف داخل حدودها. وبالطبع، فإن أوروبا الغربية وإسرائيل مستهدفتان كعدوين رئيسيين. أما الأنظمة العربية، فإنها مستهدفة من «القاعدة» و«داعش» لعدم التزامها بالدين كما ترى هذه الجماعات. ولذلك، فإن القادة الإقليميين في الشرق الأوسط عليهم مسؤولية كبيرة توجب التنسيق مع المجتمع الدولي في مواجهة هذا التحدي وتنفيذ هذه الاستراتيجية على الأرض بذكاء وفاعلية.
إننا نواجه تحديًا عظيمًا، وقد حان الوقت لوضع استراتيجية محكمة لتوجيه السياسات التنفيذية حتى لا نجد أنفسنا مجرد أصحاب ردود فعل لحادث قتل تلو الآخر في إطار سياسة لا تتعدى إدارة الأزمات.

* مدير معهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس - السفير الأميركي الأسبق لدى كل من سوريا وإسرائيل، ومساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط.