لم يقتنع البناء أبو داود برأي الدكتور مصطفى جواد عن تمسك طيور اللقالق بمآذن جانب الكرخ من بغداد دون غيرها من المآذن. فعمد أستاذي حقي الشبلي للاستئناس برأي المؤرخ عباس البغدادي، الخبير بشؤون العاصمة العراقية. فقصده في بيته ليطرح عليه ذلك السؤال الخطير. شرب القهوة التركية معه ثم جره لهذا الموضوع. وبعد شيء من التأمل والتساؤل، فكر الأستاذ البغدادي في موضوع الطعام. الحيوانات لا تفكر في شيء ولا تجري وراء شيء غير أكلها. الإرهابيون لا يعنيهم شيء غير قتل الناس، والشباب المكبوت لا يفكرون في موضوع غير الحب والغرام، ولكن الحيوانات لا يعنيها أمر من أمور الدنيا غير أين تجد قوتها. الطيور تبحث عما يناسبها من حبوب. وهذا هو السر.
رأى عباس البغدادي أن اللقالق تعيش على ما في فضلات الناس من أكل. وسكان الكرخ يعيشون على أكل «الباجه»، الكوارع والرؤوس ونحوها. وفضلات الباجه هي العظام. والطيور لا شأن لها بالعظام. فهي ليست كالثعالب والكلاب لتمتص العظمة وتلحسها. يتركون ذلك للشحاذين والفقراء الذين يملأون معظم المدن العربية. ولهذا لم تعبأ اللقالق بجانب الكرخ وتبني أعشاشها هناك. اكتشفت بمرور الزمن أن سكان باب الشيخ في الرصافة مولعون بأكل شوربة العدس. ويطبخون بجانب مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني طناجر كبيرة من هذه الشوربة الموقوفة للفقراء والمحتاجين. يأكلون منها، وما يتبقى في الطناجر من فضلات شوربة العدس يلقون به خارج المدينة وراء سدة ناظم باشا.
وهذه هي الوليمة الدسمة التي تستمتع به اللقالق ظهر كل يوم. وبما تملكه هذه الطيور من حكمة وعقل نادر في هذه الديار، دأبت على بناء أعشاشها شتاء قريبًا من سدة ناظم باشا فوق المآذن ومنائر الكنائس. تجلس هناك علوًا وتحدق في طناجر الشوربة، ما إن تتحرك من مكانها في صحن الإمام الكيلاني حتى تهرع وراءها وتنقض على ما يلقونه منها من فضلات شوربة العدس.
هذا هو السر في تعلق هذه الطيور الكبيرة بجانب الرصافة، قال الأستاذ عباس البغدادي لصديقه الممثل الفنان. ويظهر أن حقي الشبلي اقتنع بهذا التعليل. شكره على ما أفاض به من رأي عقلاني حكيم، بعيدًا عن الخرافات والخزعبلات.
عاد إلى بيته في الحيدرخانة ينتظر مرور البناء أبو داود ليعيد على مسامعه ما تلقاه وسمعه من صديقه المؤرخ الكبير.
«أبو داود، جبت لك الخبر والرأي المعقول من زميلنا الأستاذ البغدادي. ومثل ما تعرف وسمعت عنه، الأستاذ البغدادي، على اسمه، يعرف بغداد شبرا شبرا». ومضى حقي الشبلي يسرد ما سمعه من رأي.
«لا أستاذ حقي لا. هذا كلام الأستاذ مو صحيح ولا يقبله العقل. يعني هذي اللقالق ما يعجبها أي أكل من مأكولات الله، غير شوربة العدس من الشيخ الكيلاني! يعني تجي من بلاد القفقاس وتقطع ألوف الأميال لبغداد حتى تاكل شوربة باب الشيخ؟ يعني هذا كلام حقيقة يضحك، أستاذ حقي. شوف غير هالرأي». قال البناء الخطير ومضى يترنح في طريقه إلى بيته ليلاً.
TT
اللقالق تهوى شوربة العدس
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة