هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

يوسف زيدان «يتكلم في غير فنه».. وهو يعرف

«إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب».
قديما قال الإمام ابن حجر العسقلاني هذه الحكمة عندما تكلم أمامه من لا يفقه.
أعلم الآن مقدار ما عاناه الرجل من ألم وحسرة، حين اضطر إلى أن يقول هذه العبارة الموجزة المرة.. لا شك لم يكن ما سمعه أكثر تهافتًا من كلام السيد يوسف زيدان، حيث أنكر علاقة المسجد الأقصى بالقدس المحتلة بواقعة الإسراء والمعراج، مشيرا إلى أن المسجد الأقصى الذي ورد في آية سورة الإسراء هو «مسجد الجعرانة» شرق مكة. وربما كان الفارق الجوهري بين جاهل العسقلاني وصاحبنا أن الأول لم يكن يعلم أنه جاهل. أما صاحبنا فـ«يعجن» في العلم، وهو يعلم أنه «عاجن». لذا ربما كانت مصيبة الأول أهون.
ترك الرجل لخياله الروائي عنانه القاصر واحتج بما لا يُحتج به في أطراف الكلام وأسقطه على أعمدة في العقيدة والسياسة والجغرافيا، هو ليس مطالبًا بالإيمان بها جزئيًا ولا كليًا، وهو يعلم أن إيمانه بها ليس بيت القصيد لا عنده ولا عندنا.
أرجو أن لا تظن أنني متألم لنكرانك الإسراء والمعراج؛ هي حالك وأنت بها أدرى وعنها تنافح. لربما ظننت أيضًا أنت أو من دفعك إلى ما قلت أنني متألم لما يمكن أن تجره مهاتراتك من تداعيات سياسية ووطنية، حيث يمكن أن يحتج بكلامك الكيان الإسرائيلي المحتل على أهلنا في فلسطين، لا والله ما لهذا أغضب، فأهل القدس سيدافعون هم ومن والاهم عن أرضهم سواء كانت أطهر بقعة في الأرض أو كانت حاشا لله أنجس بقعة، فهي أرضهم وسيستردونها طال الزمان أم قصر، لأنها أرضهم.
إنما يغضب مثلي لمثل ما غضب له ابن حجر العسقلاني لمّا قال ما قدمت به كلامي.. أنت تعجن في مجال من العلم يحتاج عدة لا تتوفر لمثلك وأنت تعرف ذلك جيدًا.. ولا أظنك تحتاج مناقشة في تفاصيل ما طرحت فلم تطرح علمًا بل سمحت لنفسك فقط أن تصير منديلا ورقيا في يد أي عابر سبيل.
يا رجل أيحتج باحث جاد في مثل هذه الأمور بمثل الواقدي (ت 207هـ)؛ أأعيد عليك ما كتبه إمام جيل النهضة الشيخ محمد عبده (ت 1905م) في الواقدي منذ أكثر من مائة وثلاثين عامًا مضت من أن كتبه منحولة وأن لغة هذه الكتب بنت عالم القصاصين في شوارع القاهرة في القرنين الثامن والتاسع، وهو - أي الواقدي - ابن القرن الثاني وأول الثالث الهجري (لو كنت تعلم).
يقول الأستاذ محمد عبده في مقالة بعنوان «كتب المغازي وأحاديث القصاصين». نشرت في جريدة «ثمرات الفنون» البيروتية سنة 1303هـ. وأعادت مجلة «المنار» نشرها في عدد غرة شوال 1318هـ. أي بعد نشرها الأول بخمس عشرة سنة، يقول محمد عبده عن الواقدي: «والناظر في كتاب الواقدي ينكشف له بأول النظر أن عبارته من صناعات المتأخرين في أساليبها وما ينقل فيها من كلام الصحابة مثل خالد بن الوليد، وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله عنهم لا ينطبق على مذاهبهم في النطق». ليخلص الشيخ عبده إلى أن أسلوب كتاب الواقدي «من أساليب القصاصين في الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة والتاسعة، ولا يرى عليه لهجة المدنيين ولا العراقيين، والرجل كان مدنيَّ المنبت عراقيَّ المقام، ولولا خوف التطويل لأتيت بكثير من عباراته وبينت وجه المخالفة بينها وبين مناهج أبناء القرون الأولى في التعبير، على أن ذلك لا يحتاج إلى البيان عند العارفين بأطوار اللغة العربية».
فالواجب - على ما ذكر الأستاذ محمد عبده - أن لا يؤخذ عن الواقدي كما هو حادث، «فهذا الكتاب لا تصح الثقة به، إما لأنه مكذوب النسبة على الواقدي وهو الأظهر، وإما لضعف الواقدي نفسه في رواية المغازي كما صرَّح به العلماء، فلا تقوم به حجة للمتحذلقين، ولا يصلح ذخرًا للسياسيين، ومثل هذا الكتاب كتب كثيرة، كقصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي (ت 429هـ)، وكثير من الكتب المتعلقة بأحوال الآخرة أو بدء العالم أو بعض حقائق المخلوقات المنسوبة إلى الشيخ السيوطي (ت 911هـ) وقصص روايات تنسب إلى كعب الأحبار (ت. نحو 34هـ) أو الأصمعي (ت 216هـ) ومن شاكلهما ممن عرفوا بالرواية، فأولع الناس بالنسبة إليهم من غير تفريق بين صحيح وباطل، فجميع ذلك مما لا اعتداد به عند العلماء ولا ثقة بما يندرج فيه». والعمدة في النقل من التاريخ في نظر الأستاذ إنما من «كتب الحديث كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح وتتلوها كتب المحققين من المؤرخين كابن الأثير (ت 630هـ)، والمسعودي (ت 346هـ)، وابن خلدون (ت 808هـ) وأبي الفداء (ت 732هـ) وأمثالهم، وعلى أي حال فلا يستغني مُطالِع التاريخ عن قوة حاكمة يميز بها بين ما ينطبق على الواقع وما ينبو عنه».
ما مر من كلام الأستاذ يمكن الاختلاف حوله بلا شك، فهو باحث يخطئ ويصيب، غير أني أوردته لأنه كلام عالم يعرف المسؤولية السياسية والعلمية لما يقول أو يكتب، وليس غرًّا يبحث عن صخب فارغ لا ينبغي لأهل العلم الولع به.
أخيرًا؛ السيد زيدان، أعرف خطوتك القادمة: (القدس لهم)، أليس كذلك؟
وبناء عليه، أرجو أن تتنحى جانبًا، فرسالتي لهم: «يا أيها الذين دفعتم بهذا الغرّ، لا تفرحوا بكلامه، فهو كلام لنصف روائي وربع محقق وعشر باحث، هو تاجر؛ وحقائق الجغرافيا والتاريخ واللغة لا تغيرها أيمان التجار الباطلة".