جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

كنا نأكل لنعيش واليوم نعيش لنأكل

السؤال الذي يطرح نفسه أحيانا: {هل نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل؟}. والجواب غالبا ما يتفاوت ما بين الذين يعشقون الطعام وليس لديهم العديد من النشاطات والانشغالات غير الأكل، وبين فئة منا لا تجد الوقت للأكل بسبب زحمة العمل ووتيرة الحياة المتسارعة. أما الفئة الثالثة والمحزنة تقع في خانة الذين يصارعون الموت من أجل البقاء والإفلات من كفر الجوع.
إذن، الأكل مهم وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان ولم أخترع البارود، لأني لست الوحيدة من يعرف أهمية الأكل لكي نحيا ونعيش تماما مثل محرك السيارة الذي لا يعمل إلا عن طريق الوقود والطاقة.
ولكن السؤال الذي يشغل بالي هنا هو السبب وراء اهتمامنا الزائد بالأكل في أيامنا هذه، نستيقظ من النوم وأول ما تراه أعيننا برنامج عن الأكل، وننام على برنامج مماثل. وليس هذا كله، بل هناك قنوات متخصصة بتقديم برامج الطهي والأكل تعمل على مدار الساعة، وهنا أتكلم عن الشرق والغرب، وإذا لاحظتهم، فنحن نتكلم عن الأكل بشكل كبير لم يكن على هذا النحو من قبل.
كان غذاؤنا في الماضي يقتصر على وجبة الفطور ووجبة غداء خفيفة وعشاء عبارة عن قطعة من الخبز مع الجبنة والزيتون مع كوب من الشاي، ولكن اليوم موضوع الأكل أخذ مسارا مختلفا تماما. وهذا الشيء لا يقتصر فقط على الأكل لا بل أيضا على الشراب، ففي الماضي كانت القهوة ترتشف في أوقات خاصة بها، وكانت لها طقوس مقدسة، أما اليوم فترى الناس في الشارع تهرول وفي يدها كوب من القهوة، لقد اعتدنا على هذا المشهد ولكن هذا لا يعني بأن الوضع صحي أو حتى طبيعي.
وبالعودة إلى موضوع الأكل، كان طعامنا في الماضي بسيطا جدا، وخاليا من الفذلكة الزائدة، أما بالنسبة للمال الذي كنا ننفقه على مأكلنا كان أقل بكثير من المبالغ الطائلة التي ننفقها حاليا، أعرف أن هذا الأمر متعلق من جهة بغلاء المعيشة وارتفاع أسعار الغذاء في العالم، ولكن هذا لا ينفي الفكرة بأننا ننفق الكثير من المال على الأكل في الخارج. فحتى في لندن، تلك العاصمة المتقدمة، بينت دراسة أن المدينة لم تشهد من قبل مثل الإقبال الذي تشهده حاليا على افتتاح المطاعم الجديدة بمعدل أكثر من 180 مطعما في عام واحد (بما وصف بكسر الرقم القياسي منذ عام 2008)، والمنافسة شديدة جدا بسبب الزبون المتطلب، الذي يدفع مبالغ طائلة حاليا للحصول على أفضل أنواع المنتجات الغذائية، ولهذا السبب ارتفع سعر الغداء أو العشاء في المطاعم بنحو 2 بالمائة.
وهذا إذا ما دل على شيء فإنما يدل على الحقبة التي نعيشها التي تشير إلى أننا أصبحنا نعيش لنأكل وليس العكس، لأن الهدف المنطقي من الأكل هو ملء المعدة وإمدادنا بالطاقة، لكي نستطيع أن نقوم بأعمالنا ونركز ونفكر ونتحرك. أما هذه الظاهرة فهي تدل على أن مفهوم الأكل تبدل فأصبح الأكل الجيد مطلب الجميع ولا يقتصر على طبقة معينة من الناس.
فنحن لا نأكل فقط، لا بل نتغزل بالأكل من خلال التقاط الصور، وفي الكثير من الأحيان نرى أنفسنا نصف الطبق وكأننا نتكلم عن براد بيت أو بريجيت باردو أيام الصبا، وقد يكون السبب هو أننا أصبحنا متطلبين وبكل بساطة أصبحنا {نعيش لنأكل}.