جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

شاطئ بودروم يلفظ آخر أنفاس الإنسانية

بودروم الواقعة على بحر إيجه، هي من بين أكثر الأماكن السياحية الساحلية التي يقصدها السياح، خاصة العرب، شهرة بشواطئها الجميلة ومقاصفها السياحية المحببة على قلوبهم، ولكن لؤلؤة الشواطئ التركية انهزمت فيها الإنسانية على شاطئها الذي لفظ آخر نفس للإنسانية، عندما لفظ موجه ملاكا صغيرا لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات، لم يكن يلهو في البحر ويلعب كباقي أبناء جيله، إنما كان يحاول الفرار مع عائلته من سوريا، التي تمزقها الحروب إلى كندا، هذا هو ذنب الطفل الذي لم يكن سائحا، ولم يكن لاجئا حتى، لأن تركيا لم تعطه حق اللجوء، ولا حتى حق الخروج (إلا ميتا)، فضاقت بأهله الوسائل، ولم يكن هناك إلا القارب الصغير ليأخذهم باتجاه اليونان، وهنا حلت الكارثة.
صورة الطفل إيلان كردي وهو جثة هامدة على الشاطئ، هي فعلا من أقوى الصور التي سيسجلها التاريخ، وهي الصورة التي حركت مشاعر البشر في أوروبا تحديدا، كيف لا، والأوروبيون - وأنا هنا أتكلم عن الشعب وليس عن السلطات والحكومات، وليس جميعهم، وإنما نسبة كبيرة منهم - يدعمون اللاجئين بكل ما هو متوفر في أيديهم، فشدني منظر الشباب في محطة قطارات في النمسا، وفي بودابيست، وهم يوزعون الأكل والشراب على السوريين الفارين من ظروف صعبة.
وشدني أيضا كلام لطفل سوري عمره لا يتعدى العشر سنوات، وهو يوجه رسالة إلى الحكومات الأوروبية مطالبا إياها بالتدخل لإيقاف الحرب في سوريا، لكي يعودوا أدراجهم إلى بلدهم، وقال: «إذا أوقفتم الحرب، فلن نكون بحاجة للمجيء إلى أوروبا».
أزمة اللاجئين السوريين من أسوأ الأزمات التي تواجهها أوروبا حاليا، فبعض الدول ليس باستطاعتها احتواء المزيد من اللاجئين، ولكن أين نحن من هذه الأزمة؟
صورة إيلان ستبقى عالقة في أذهاننا، تماما مثل صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة، من منا يستطيع نسيان صورته الحية والكاميرا ترصد لحظات عمره القصير الأخيرة؟ إلى أن أصابه الرصاص وتوفي أمام أعيننا جميعا.
وفي حال لم تهز صورة إيلان، التي تحولت إلى رسومات ولوحات رسمها فنانون بعد نشرها بساعات معدودة، ولم توقظ ضمائر الغافلين عن الأزمة، فلا بد من القول بأن الإنسانية لفظت أنفاسها الأخيرة، تماما مثلما لفظ البحر جثة إيلان وشقيقه الأكبر، وسيلفظ جثث الفارين بالقوارب يوميا الذين يزيد عددهم عن 2000 شخص (يوميا).
المحزن في الأمر أن صورة الطفل البريء أصبحت رمزا للأزمة الحالية، التي يعاني منها السوريون على أبواب أوروبا، وإلى أن رشحت معلومات عن هوية الطفل وعن أهله وقصته، لم يكن سوى صورة، وهذه هي المشكلة، لأن هؤلاء المساكين أصبحوا أرقاما، ولم يعدوا أفرادا وشخصيات..
والشيء الآخر المحزن هو أننا نحن العرب بطبعنا، نحب الدراما، ونعبر عن مشاعرنا الجياشة، ولكن لا نعرف كيف نترجم تلك الحساسيس فتنحسر في نطاق الشعر والكلمات، على عكس بعض الأوروبيين الذين نتهمهم بالبرودة والانحلال، وفقدانهم للروابط الاجتماعية والعائلية، ويا للمفاجأة، فالبريطانيون هم من بين أكثر الشعوب التي تتبرع للمحتاجين في القارة السمراء وغيرها، ومن بين أكثر الذين يتبرعون للجمعيات الخيرية في بلدهم.
إيلان ذهب وبقيت صورته التي هزت الكوكب، ولكن السؤال هل سيهز هذا الحدث الأليم أحدهم للمساعدة، وتغيير مسار البؤس الذي ينتظر اللاجئين؟