خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

التنمية قبل الديمقراطية

طالما اعتقدت وذكرت أن من اشتغلوا أو درسوا في الغرب، لا سيما من درسوا القانون في الجامعات الغربية، كسعد زغلول في مصر، وعبد الرحمن البزاز في العراق، تعلقوا بسنن الديمقراطية البرلمانية، وسعوا لتطبيقها في بلداننا المتخلفة. خرج عن هذه القاعدة الحبيب بورقيبة في تونس، ولي كوان، الذي توفي أخيرا، في سنغافورة. آمن كلاهما بشعار التنمية قبل الديمقراطية. وما نراه في تونس من الوعي وارتفاع مستوى التعليم والثقافة يعود لأفضال السياسة البورقيبية. بيد أن بورقيبة لم يستطع أن يحقق لبلاده الازدهار الاقتصادي والتنموي الذي حققه لي كوان لسنغافورة.
درس لي كوان القانون في جامعة كمبردج بإنجلترا، وتزوج بامرأة صينية مثله وزميلة له. واشتغل كلاهما في المحاماة عند عودتهما لبلدهما. لاحظ أن سنغافورة كانت مستنقعا من التأخر والفقر والتخلف. وعلى خلاف الآخرين من المتأثرين بالديمقراطية البرلمانية الغربية، ذهب إلى أن ما يحتاجه بلده ليس الانتخابات والمساواة والحريات المدنية، وإنما النهوض بالمستوى الاقتصادي والتعليمي. وحالما آل الحكم إلى يده عام 1959. تولى إدارة البلاد بقبضة حديدية، وقمع كل من وقف في طريقه أو حاول انتزاع الحكم من يديه. استطاع بفضل ذلك أن يحقق ما حققه صدام حسين من استمرارية الحكم لما يزيد على 30 عاما. وبفضل ما حققه خلالها من الاستقرار والأمن والنزاهة رفع البلاد إلى مصاف أغنى دول العالم وأكثرها ازدهارا اقتصاديا وتجاريا وعمرانيا وثقافيا. إنها الدولة الآسيوية الوحيدة التي تحظى بالدرجة الائتمانية «إيه إيه إيه». ويستمتع مواطنوها بالمرتبة الثالثة عالميا من حيث الدخل السنوي للفرد.
لا أدري كم من هذا النجاح يعود لسياسته، وكم منه يعود أيضا لاستعداد شعبه لتقبل نهجه والتعاون معه بدلا من المعارضة والتآمر عليه وعرقلة كل مساعيه ومشاريعه، كما الحال في معظم بلداننا. شعبها من شعوب النمور الآسيوية يتكون أكثرهم من الصينيين والمؤمنين بالبوذية، ثم المسيحية، ثم الإسلام. وما يقرب من خمسهم لا يؤمنون بأي دين. وهذه خلطة أبعد ما تكون عن التركيب السكاني لعالمنا العربي. ولا شك أن ابتعاد شعبها عن الإرهاب وساستها عن الفساد قد ساعد سنغافورة في تحقيق هذا النجاح.
ومع ذلك، فالدرس واضح بالنسبة لنا. الانتخابات والمساواة والحريات تضعضع الاستقرار والائتمان والتنمية الحثيثة، وكثيرا ما تؤدي إلى الكوارث حتى في العالم الغربي. هكذا ارتقى الحزب النازي للحكم في ألمانيا والبلشفية الستالينية في روسيا. وها نحن نرى ما أفضت إليه في العراق وبلدان الربيع العربي. من المحرج والمحزن لشخص مثلي آمن طيلة حياته بالديمقراطية والاشتراكية أن يقر ويعترف بهذه الحقيقة، وهي أن ثروات الأمم حصلت عليها شعوبها تاريخيا نتيجة اللامساواة، وليس بالمساواة، وبالقمع، وليس بالحرية، وفي كثير من الحالات بالاستعباد وليس بالتحرير وتقرير المصير. المشكلة طبعا في الأنظمة الشمولية هي الحصول على رجل مثل لي كوان، وليس مثل صدام حسين.