سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الحلم «الداعشي»

تقديرات مراكز الأبحاث الغربية متشائمة جدا حيال إمكانية وضع حد للتمدد السريع والمتواصل للتنظيمات المتشددة المتطرفة وقدرتها على انتزاع المزيد من الأراضي، وإعلانها ولايات جديدة، بانتظار تحقيق حلم قيام الدولة الإسلامية الكبرى. ليس فقط لأن عدد المتشددين المنخرطين في المعارك إلى تزايد، وأن الولايات المتحدة التي تقود تحالفا عريضا ضد «داعش» تفتقر إلى أي استراتيجية واضحة، أو صارمة، لكبح انتصارات التنظيم الذي يزداد تأقلما مع قصف الطائرات، بل ثمة اليوم من يتحدث عن تعاطف متصاعد بين الشباب الصغار في الغرب مع الظاهرة.
وفي استفتاء للرأي أجراه «معهد الاستطلاع البريطاني» منذ أشهر، تبين، وهنا المفاجأة الكبرى، أن واحدا من بين كل أربعة مراهقين فرنسيين أبدى إعجابه بتنظيم داعش، وأن 27 في المائة من الفرنسيين عموما أظهروا رأيا إيجابيا أو حتى إيجابيا جدا، مقابل 6 في المائة من الإنجليز و4 في المائة من الألمان. والتمايز الفرنسي ليس عائدا لكثرة عدد المسلمين في فرنسا، فهؤلاء لا يتجاوزون 6 في المائة من عدد السكان، وإنما لأسباب أخرى يجهد المهتمون لفهمها.
«السر في رأي الأنثروبولوجي سكوت اتران يكمن في قدرة هذه التنظيمات - ممثلة بشكل أساسي بـ«داعش» رغم كل ما يرتكبه من جرائم مروعة - على إثارة إحساس بـ«السمو» و«النبل» ولو كان وهميا وزائفا، في لحظة بنت فيها الآيديولوجيات من «رأسمالية» أو «شيوعية» مجدها على مبادئ تحرم المرء من الشعور بالتسامي والاندفاع صوب أهداف حماسية يبذل روحه من أجلها. قد توافق أو تخالف الرجل على تحليل بديع حول ما حرمت منه الحضارة الغربية مواطنيها من أحاسيس غالبا ما كانت دينامو الحركات الشعبية الكبرى، مثل التضحية، والنضال، وركوب الأخطار، كما الدم الذي يغلي في العروق من أجل قضية كبرى، مكتفية بوعود هادئة ومضجرة هدفها حياة مستكينة، لكنك لا بد أن تحترم الجهد العلمي المبذول في سبيل فهم واحد من أخطر التحديات وأكبرها في الزمن الذي نعيش.
بمقدورك أن تجد في اللغات الأجنبية دراسات حول «سيكولوجيا المتشددين»، و«ما هي الفلسفة التي تحركهم؟»، و«كيف يقضون يومياتهم؟»، و«ما هي التقنيات لاتصالاتهم الهاتفية السرية؟»، و«كيف يستطيعون استغلال الشبكة السيبيرية بحرية؟»، رغم المطاردات الاستخباراتية لهم.
الدراسات العربية لا تزال على وفرتها تطفو على السطح، رغم «إعلان دولة العراق والشام» بمساحتها الهائلة، ومن ثم «ولاية سيناء» وبعدها «ولاية سرت»، وها هم زوار جرود عرسال في لبنان يتحدثون عما يشبه إقامة دولة وبدء تطبيق الشريعة، على الطريقة الداعشية، على الحدود بين سوريا ولبنان، وهناك متشددون يخوضون معارك شبه يومية للتمدد صوب قرى مسيحية، لإعلان ولاية لبنان.
تنقل «فورين بوليسي» تحقيقا مذهلا حول قدرة «داعش» على إدارة الحياة اليومية في المناطق التي فرضت سيطرتها عليها، من تعبيد طرق إلى فتح المستشفيات، ومكاتب للبريد، وتأمين التمويلات لمؤسسات صغيرة ناشئة. وبحسب ما تقوله وكالة الاستخبارات الأميركية فإن «داعش» يتبع أسلوب «حزب الله» في تأمين تمويلاته الذاتية، لإعطاء الأولوية لتوفير احتياجات السكان بالعناية بتمديدات الماء والكهرباء، والصرف الصحي. وهناك خبراء يعتبرون أن سر «داعش» يكمن في الجمع بين أساليب «حزب الله» التنظيمية من جهة، ومهارات تنظيم القاعدة المتراكمة عبر السنين من جهة ثانية. ولا غرابة في ذلك، فهناك أيضا من يعتبر «حزب الله» سليل «منظمة التحرير الفلسطينية» التي تدرب أوائل مقاتليه على أيدي فدائييها.
لكن التركيز على «داعش»، كتنظيم هو الأكثر شهرة، يجعلنا أمام إصبع يخفي غابة كثيفة من المتشددين الذين يصعب معرفة إلى أين سيقودون منطقة إسلامية تمتد من أفغانستان إلى المغرب العربي غربا ووصولا إلى نيجيريا ومالي جنوبا، كما إلى كازاخستان شمالا. تأمل الخريطة التي نشرتها مجلة «كوريه إنترناسيونال» الفرنسية في عددها الأخير عن العالم الإسلامي، وفيها توزيع لأماكن أقامت فيها التنظيمات المتشددة إماراتها أو تكاد فتجدها تقارب الثماني. مناطق النزاعات الطائفية حدث ولا حرج. من «بوكو حرام»، إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وتنظيم الشباب في الصومال، تتشعب التسميات، لمجموعات قد تأتلف أو تختلف، لكنها في الحالتين باتت تعتبر من بين الأوفر تمويلا في العالم والأكثر تسليحا واستشراسا في القتال، وجذبا للانخراط فيها.
تستيقظ أوروبا حين ترى المتشددين ينتصرون مقابل شواطئها، فيرى رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس ضرورة القيام بعمل دفاعي. لكن المثل الصيني يقول «إن التحضير الجيد هو نصف انتصار»، وما يشهده العالم لغاية اللحظة هو استعدادات مدروسة ومنظمة للمتشددين، مقابل تشتت ونزاعات وانقسامات بين من يريدون محاربتهم.
باتت «الدعاية» هي أكسجين «داعش»، ومع ذلك يحتاج الأمر لمؤتمرات ومفاوضات واتفاقات، لكبح جماح أفلام التنظيم المقززة. صار معروفا أن شرائط الذبح الجماعي والحرق هي أكثر ما يثير الشعور بـ«القوة» و«التفوق» لدى كل أولئك الذين فقدوا البوصلة في حيواتهم الخاصة، وأن الصور الاستعراضية لأعضاء التنظيم التي تكبّر وتفرد لها الصفحات وتكرس لها الشاشات، هي من أمضى الأسلحة وأكثرها فتكا، لتجنيد المزيد من الأنصار.
هل حقا يريد العالم مكافحة التطرف؟ الأنثروبولوجي سكوت اتران يذكر المتساهلين في مواجهة «داعش» بأن «العنف والقتل في كل الثقافات، وعلى مدى التاريخ، كان يرتكب دائما في سبيل قضية نبيلة وأخلاقية سامية. لأنك دون أن تدّعي الفضيلة من الصعب أن تنجح في قتل هذا العدد الكبير من البشر». لذلك فإن حفلة النفاق الدولية المتواصلة سيكون ثمنها باهظا جدا. السخرية من «داعش» لم تعد كافية لمكافحته، الرهان على وحشيته لزرع النفور في النفوس خاسر سلفا، إذ هنا، تحديدا، تكمن قوته ومصدر جاذبيته.