أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

«سوتشي»: روسيا مطمئنة أفضل للعالم

بينما تنهي روسيا استعداداتها لاستضافة الألعاب الأولمبية الشتوية الثانية والعشرين (سوتشي 2014) الأسبوع المقبل، بدأ القول المأثور عن عدم «خلط الرياضة بالسياسة» التردد في وسائل الإعلام. غير أن الرياضة في حقيقة الأمر تبدو مثلها مثل مجالات النشاط الإنساني الأخرى، مرتبطة ومتأثرة بالسياسة. وليست دورة ألعاب سوتشي 2014 الأولمبية استثناء من تلك القاعدة. فلماذا ينفق الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من 60 مليون دولار على استضافة الألعاب الأولمبية إذا لم تساهم في تحسين حظوظه السياسية في البلاد وكذلك تحسين صورة روسيا في عيون العالم الخارجي؟
تمثل دورة الألعاب الأولمبية الشتوية (سوتشي 2014) بروفة سياسية جرى تصميمها بغية إعلان عودة روسيا إلى واجهة المشهد الدولي.
وقد ارتبط تقليد الألعاب الأولمبية في مجمله بالحسابات السياسية منذ انطلاقها في اليونان القديمة حينما أرادت أثينا استغلال تلك المناسبة لتبدو متميزة عن بقية المدن الأخرى. وبعد غزوهم منطقة البلقان، استبدل الرومان بالمنافسات الرياضية الخاصة بهم الألعاب الأولمبية، في إشارة إلى فرض تفوقهم وسيادتهم على اليونان القديمة. وعندما اتخذت الإمبراطورية الرومانية المسيحية الديانة الرسمية لها، تخلى الرومان عن تقاليدهم الرياضية. غير أن الاهتمام بالجسد البشري رياضيا لا يمكن أن يصرف مواطني الامبراطورية عن تعلم الدروس من آلام المسيح.
أما في العصر الحديث، فقد وجدت فكرة إحياء الألعاب الأولمبية صدى بين صفوف محبي الإغريق من الإنجليز الذين ساعدوا اليونانيين على نيل استقلالهم من الإمبراطورية العثمانية في عام 1832. ولم يكد يحل عام 1866 حتى أقيمت «الألعاب الأولمبية» الحديثة في كريستال بالاس بلندن. وقد كان الهدف من وراء تلك الخطوة هو تأكيد موقع بريطانيا العظمى كأكبر قوة عظمى في العالم في ذلك الوقت.
وقد لعبت الحسابات السياسية دورا مهما في انطلاق دورة الألعاب الأولمبية الحديثة، حيث لعب الأرستقراطي الفرنسي بيير دي كوبرتان دورا كبيرا في إعادة تلك الألعاب إلى الحياة مرة أخرى. كانت فرنسا - وما زالت - تجتر آلام الخيبة من الهزيمة المذلة التي لحقت بها على يد البروسيين، والتي خسروا على أثرها إقليمي الألزاس واللورين. وكان دي كوبرتان قد فكر في أن إعادة الألعاب الأولمبية إلى الحياة سوف ينعش الروح العسكرية عند الفرنسيين للتخفيف من وطأة تلك الهزيمة. ولذلك، كان دي كوبرتان غالبا ما يستخدم المصطلحات العسكرية، حيث يقول: «ليس مهما أن تحقق النصر دائما في حياتك، بل الأهم أن تتحلى بروح قتالية، كما أنه ليس مهما أن تهزم الآخرين، بل الأهم أن تقاتل جيدا»، وتبدو تلك العبارة حبلى بالكثير من المصطلحات الحربية.
أما المثال الأكثر وضوحا في كيفية استغلال الرياضة لتحقيق مآرب سياسية، فقد كان في عام 1936 عندما نظم هتلر الألعاب الأولمبية الصيفية في برلين. ففي سعيه لإثبات تفوق الألمان، كان هتلر يأمل أن يثبت أبناء «الجنس الآري» تفوقهم على الأجناس الأخرى، خاصة اليهود - الذين يعدهم جنسا «دون البشر»، والرومان - أو الغجر - والسود والسلاف. وبعد ذلك بإحدى عشرة سنة، جاء دور بريطانيا العظمى لتنظيم الألعاب الأولمبية في لندن حتى تؤكد تفوق الجيوش المنتصرة على «رجال هتلر الخارقين» خلال الحرب.
كما وفرت الألعاب الأولمبية الفرصة لبعض من ذاقوا مرارة الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية، لا سيما الإيطاليين واليابانيين، لاستعادة مكانتهم في النظام العالمي الجديد. كما استغلت صين ما بعد ماو تسي تونغ دورة الألعاب الأولمبية (بكين 2008) لنفس الغرض، حيث أنهت تلك الدورة عقودا كانت خلالها الصين منبوذة من دول العالم. وفي بعض الأحيان، تستغل دورة الألعاب الأولمبية من جانب بعض الدول للتعبير عن غضبها من دول أخرى. ففي عام 1980، قاطع الرئيس الأميركي دورة الألعاب الأولمبية المقامة بموسكو بسبب عجزه عن، أو عدم استعداده، اتخاذ خطوات لمنع الاتحاد السوفياتي من هزيمة أفغانستان. وبعد ذلك بأربعة أعوام، رد السوفيات بأن قاطعوا دورة الألعاب الأولمبية المقامة بلوس أنجليس.
وبالعودة إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية (سوتشي 2014)، نجد أن الرئيس الروسي بوتين يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يستعيد، ولو جزءا بسيطا، من هيبة الاتحاد السوفياتي المنقرض، التي كان يتمتع بها خلال سنوات الحرب الباردة. وفي حالة نجاح بوتين في تقديم دورة ألعاب أولمبية منظمة بشكل جيد، فسيكون بمقدوره ادعاء أن مرحلة الفوضى، التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، قد ولت إلى غير رجعة، وأنه قد ولدت روسيا جديدة قادرة على تحقيق طموحات كبيرة.
ومن الممكن أن يعطي تنظيم الدورة الأولمبية في سوتشي الفرصة لبوتين لتأكيد أهمية موقع روسيا الاستراتيجي في منطقة القوقاز والبحر الأسود. وقد أنهت روسيا بالفعل إقامة قواعد عسكرية في جارتها أبخازيا، تلك الجمهورية التي تتمتع بحكم ذاتي واستطاع بوتين انتزاعها من جورجيا في عام 2008.
ويأمل بوتين أيضا أن تنظيم الدورة الأولمبية في سوتشي سوف يقنع الجميع بأنه استطاع أخيرا القضاء على الإرهاب الإسلامي في مناطق مرتفعات شمال القوقاز ذات الأغلبية الإسلامية، خاصة داغستان والشيشان وإنغوشيا.
غير أن سوتشي 2014 من الممكن أن تلقى الضوء على تاريخ روسيا الدموي خلال توسعاتها في منطقة القوقاز والحروب التي خاضها القياصرة الروس على مدار ما يقرب من قرنين ضد الإمبراطورية العثمانية وإيران والعشرات من الدويلات المسلمة.
تأسست سوتشي - التي كان اسمها الأصلي أوبيخايا - في عام 1672 لتكون عاصمة صغيرة لمجموعة من القبائل الشركسية المسلمة، وظلت مدينة حصرية على المسلمين حتى عام 1864 عندما استطاع الروس هزيمة القبائل المسلمة. وبعد أن قام الروس بطرد الإيرانيين من جورجيا في عام 1802 والعثمانيين من الإقليم الساحلي في عام 1829، قامت روسيا بأول وأكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ الحديث بمدينة سوتشي، وتحملت الكثير من المدن المجاورة جزءا كبيرا من تلك العملية. وخلال الفترة ما بين عامي 1864 و1870، تعرض أكثر من 90 في المائة من سكان سوتشي والمدن المجاورة لها إما للذبح وإما للإجبار على الهجرة الجماعية باتجاه الإمبراطورية العثمانية، وهي الفترة التي تسمى في التاريخ «المذبحة الشركسية». وقام العثمانيون بتوطين الكثير من سكان سوتشي في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
وخلال القرن التالي، قامت روسيا بإعادة الحياة إلى سوتشي والمدن المجاورة من خلال جلب مستوطنين من بيلاروسيا وأوكرانيا وفنلندا والمسيحيين من جورجيا وأرمينيا. وحاليا، يوجد نحو 20.000 مسلم في المدينة، غالبيتهم من طائفة شابسوغ السنية، التي تمثل 4 في المائة من مجموع السكان هناك. حتى خلال فترة الشيوعية، كان هناك 36 كنيسة في سوتشي في مقابل مسجد واحد مهمل للمسلمين. (في عالم 2008، جرى بناء مسجد آخر بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة).
وقد أحب ستالين سوتشي كثيرا، وشيد فيها منزلا على الطراز الروسي (داتشا)، حيث كان يستضيف الضيوف المميزين، من بينهم الأميرة أشرف، الأخت التوأم لشاه إيران، التي استضافها في عام 1945.
وتتميز سوتشي بطقس شبه استوائي ووجود أزهار الماغنوليا وأشجار نخيل الزينة، بالإضافة إلى خلفية رائحة من قمم الجبال التي تغطيها الثلوج. تذكرني سوتشي دائما بمنتجعات بحر قزوين مثل رامسار في إيران. كما يعزز ذلك الانطباع أنواع الطعام التي يقوم الأرمينيون والجورجيون بتحضيرها على الطريقة الإيرانية مثل الكباب، وكذلك الفواكه المتنوعة، التي تجعل الروس يتميزون غيظا من الحظ الرائع الذي يتمتع به سكان تلك المدينة. وعندما زرنا سوتشي في سبعينات القرن الماضي، كنا دائما ما نفترض أن أي شخص في سوتشي ربما يكون عميلا لجهاز استخبارات الاتحاد السوفياتي (KGB)، أما الآن فربما يكونون عملاء لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
ولا يمكن لدورة الألعاب الأولمبية - ذات الطابع السياسي - في سوتشي إلا أن تذكر العالم بصفحة سوداء في تاريخ روسيا الاستعماري. غير أن ذلك لا ينبغي أن يمنع الجميع من أن يتمنوا نجاح تلك الدورة. إن روسيا المجروحة في كبريائها ما زالت تعاني عدم قدرتها على الرجوع قوية مرة أخرى، وتريد أن تعطيها تلك المناسبة الرياضية الأمل في القدرة على العودة. ومن المرجح أن تعيش روسيا المطمئنة في سلام مع باقي دول العالم، وهو ما يمكن أن يساعد في إنهاء تجربة مأساوية في إقليم ظل ضحية للحروب والجشع الإمبريالي على مدى عدة قرون.