سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

كتاب مصطفى أمين

اتصلت بي السيدة صفية مصطفى أمين من القاهرة مرتين؛ الأولى تسأل على أي عنوان تُرسل إلي الكتاب الجديد الصادر عن والدها، والثانية للتأكد من أنني قد تسلمت نسختي. ومع أنني اعتذرت منذ زمن عن موقف أرعن من مصطفى أمين، فقد شعرت وكأن السيدة صفية تريد أن تزيد في شعورا ملازما بالذنب.
وضع الكتاب الأستاذ أحمد عطية صالح، وأشرفت على إنتاجه وطبعه السيدة صفية، وهو قسمان؛ الأول بدايات علي ومصطفى أمين، اللذين أقاما أول دار صحافية في الشرق، والثاني الوثائق الرسمية التي تبرئ مصطفى أمين من تهمة التخابر مع الـ«سي آي إيه»، وتدين، في المقابل، صاحب أعتى اسم في المخابرات المصرية، صلاح نصر.
مرت الآن عقود على اتهام الرجل، وفترة على وفاته، بعدما أمضى في السجن 9 سنوات، كان الأكثر مرارة منها الكتاب الذي وضعه عن تلك المرحلة، تلميذه ذات يوم، محمد حسنين هيكل. ولعل الكتاب الجديد له هدف واحد هو الرد غير المباشر على هيكل، الذي أورد في كتابه ما اعتبرته، شخصيا، أقسى ما في الكتاب، إذ قال إن صفية سألته: «هل صحيح أن والدي جاسوس؟».
مرة أخرى أدلي برأي شخصي أرجو أن أسامح عليه: إذا كان المقصود بالجزء الوثائقي من الكتاب هو وضعه كمرجع بين أيدي الباحثين والمؤرخين، فليكن. ابنة تدافع عن سمعة والد كبير. أما الجزء الأهم في حياة مصطفى أمين، بعيدا عن تلك المرحلة السياسية المعقدة والملتبسة، فهو أن الرجل كان، بلا أي شك، أهم محدث في تاريخ تأسيس الصحافة المصرية.
لقد جدد مصطفى أمين، ناقلا الصحافة من عالمها الكلاسيكي الموروث من القرن التاسع عشر، إلى صيغة جديدة قائمة على الابتعاد عن السياسة والاقتراب من الناس، عمادها الخبر والاختصار والسرعة. وقد سعت الصحافة في جميع الأنحاء العربية إلى تقليد «أخبار اليوم»، وخصوصا في لبنان، حيث أقام رفيقه وصديقه سعيد فريحة أول دار صحافية، وأنشأ «الأنوار» على غرار «الأخبار»، ومثلها أيضا فتح أبوابها للفنانين والفن.
لم تُصدر دار مصرية من الصحف والمجلات والتجارب ما أصدره مصطفى أمين. ولم يتعرض أحد مثله لموجات العلو والهبوط والصمود. ولم يكرّس أحد مثله حياة العمل والحرية والسجن لشيء واحد هو الصحافة. وفي هذا الإعصار من العمل الصحافي اقترب مصطفى أمين من أضواء الاحتراق. وقد دخل السجن السياسي معظم الصحافيين في مصر عبر العهود، لكن تهمته كانت الأقسى ومدته كانت الأطول والأكثر مرارة. وسوف تتذكره مصر - والصحافة العربية - عملاقا في الصحافة. السجن من الأفضل أن ينسى. السجون لا تليق بصحافة مصر.