حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

الربا الأخطر الاستطالة في الأعراض

دخل الشعب السعودي في الفترة الماضية في جدل شديد حول الاكتتاب في أحد البنوك الرئيسية في البلاد بين فريق يقول إنه ربا صريح، وفريق آخر يقول إن اللجنة الشرعية في البنك أجازت الاكتتاب وأكدت خلوه من الربوية، وليس هدف المقال البحث الفقهي تحريما أو تحليلا، فالكاتب ليس من ذوي الاختصاص، إنما الذي يهمنا هنا هو تراجع لغة الحوار ونزول أخلاقياته وتدني مفرداته في كل مرة يثور جدل بين الأطياف الثقافية والفكرية.
لا جديد في الجدل الفقهي الذي تتفاوت فيه أقوال العلماء سواء في الحكم بربوية المعاملات المالية أو غيرها من المسائل الفقهية والتي تتشعب فيها الآراء تحريما وتحليلا، بل تتفاوت فيها الآراء داخل المذهب الفقهي الواحد، فبعض الأحناف مثلا يقولون بالتحريم في مسألة ويقول فريق آخر من نفس المذهب بالتحليل، بل إن لإمام المذهب رأيا قديما ورأيا جديدا مخالفا له، ورأي لإمام آخر في العراق ورأي آخر لنفس الإمام حين انتقل إلى مصر، كان العلماء وطلابهم قديما يتجادلون ويتحاورون دون أن يطعن أحد في دين المخالف ولا نزاهته، فلم يقولوا عن الأحناف الذين لا يرون بعض المسكرات خمرة إنهم يحلون الخمرة التي حرمها الله، كما فعل بعض الذين ردوا على أحد أعضاء هيئة كبار العلماء ورموه بأنه أحل الربا الذي من أدنى درجاته مثل أن يزني الرجل بأمه، ولا يفهم من كلامي السكوت عن الرد وتوضيح مواضع الخطأ، بل هو مطلوب فما منا إلا راد أو مردود عليه، المحظور فقط التخوين واتهام النيات والكف عن ابتزاز المخالف بتهمة (تحريم ما أحل الله)، فإن أعطينا أحد الأطراف الحق بالقذف بهذه التهمة الخطيرة أجزنا للطرف الآخر أن يتهم مخالفه بأنه يضيق واسعا ويحرم ما أحل الله، وهذه لغة حوارية عقيمة بليدة لا تليق بعامة الناس ناهيك بخواصهم وعلمائهم وطلبة العلم فيهم، وقد قدم الدكتور سعود العصيمي المختص في الاقتصاد الإسلامي نموذجا راقيا في الرد على مجيزي الاكتتاب، فقد حاججهم علميا، بعد أن حفظ لهم فضلهم وسابقتهم في الخير، بلغة رزينة هادئة تركز على الفكرة تفنيدا وتوضيحا وتترك صاحب الفكرة.
وهناك فريق آخر من المثقفين يتكلف ويتعسف في حشر المسائل الفقهية المجردة في العراك الفكري والتحزبات الفئوية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وربوية بعض التعاملات البنكية وأحكام الحجاب والحديث عن اختلاط الجنسين والعناية بالقرآن وحلقاته كلها أدبيات «صحوية إخونجية» حتى ولو اكتنزت بها النصوص الشرعية وتواتر ذكرها في أقوال الصحابة والتابعين.
واللافت أن الأغلبية المثقفة السعودية بأطيافها المختلفة دخلت في دورات مكثفة من الحوار والسجال منذ دخول خدمة النت في الثمانينات مرورا ببزوغ نجم الساحات والمنتديات التي تسيدت النزالات الثقافية والفكرية في التسعينات إلى أن حط الحوار في ساحات «فيسبوك» و«تويتر»، وكانت هذه التجربة الحوارية مكثفة وكفيلة بإثراء التجربة وتعزيز التعددية الفقهية والفكرية، إلا أن المخرجات كانت دون المستوى المأمول عطفا على طول التجربة وكثافة المشاركين فيها، وما الجدل حول الاكتتاب البنكي الأخير وما صاحبه من أحكام جائرة من بعض أطراف الحوار إلا شاهد على هذا الإخفاق.