نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

تركيا.. إلى متى وإلى أين؟

بعد الحادثة الدموية الفادحة، التي وقعت قبل أيام في المنصورة، صار واجبا وطنيا وقوميا وحتى عالميا توجيه سؤال استفساري واستنكاري في الوقت.. ذاته إلى متى وإلى أين؟
إلى متى يستمر هذا المشهد الانتحاري الذي عنوانه من أجل السلطة «عليّ وعلى أعدائي»؟
وإلى أين سيمضي هذا الإرهاب العبثي البغيض وماذا يفعل بمصر والمنطقة؟
وهذا السؤال ليس موجها للإخوان المسلمين في مصر أو لتنظيمهم الدولي، وإنما يوجه قبل ذلك إلى مؤيديهم، وتتصدرهم بصورة خاصة، السلطة في تركيا، التي اختارت التضحية بالعلاقة مع مصر الكبيرة، لمصلحة علاقة غير مفهومة بمنطق الدول الكبرى والمهمة، مع الإخوان المسلمين في مصر، الذين يوفرون حاضنة نموذجية وثمينة، لكل راغب في إضعاف مصر وتقويض مكانتها المحورية في المنطقة والعالم.
لقد بلغ الشطط التركي، حدا يبدو بكل المقاييس غير منطقي، وإن كان له من جدوى فلا تتعدى تغذية أزمة ملتهبة في مصر، وليس كما تشير العناوين السطحية، استعادة الشرعية والديمقراطية.
وحين أستخدم مصطلح الشطط، فلأن ما تفعله الحكومة التركية إزاء الوضع المصري، فيه قدر كبير من النكوص عن الإيقاع التركي القوي والذكي الذي لمسناه في الأيام الأولى لتولي حزب العدالة والتنمية السلطة في هذا البلد الشقيق والمؤثر، ومن ينسى تلك الأيام التي صار فيها إردوغان بطلا شعبيا في عالمنا العربي.
وعالمنا العربي دأب على تتويج أبطال ليس لما يفعلونه وإنما لما يعدونه، وكان إردوغان واعدا بقلب الموازين التقليدية، بوضع الرقم التركي الثقيل في معادلة يستفيد منها العرب والفلسطينيون وتؤمن توازنا ظل ولا يزال مفقودا في الشرق الأوسط.
فتكرست تركيا إردوغان، في الوعي الجمعي العربي نموذجا للإسلام المستنير، لا يتعارض مع العصر، بل يلهم في إرساء نموذج سلطة وقيادة، يحتاجه أهل المنطقة، في أمر تنميتهم الداخلية وقضاياهم السياسية.
غير أن ما كان في البدايات، تحول إلى عكسه في النصف الثاني من الطريق، وإذا بالحكم التركي الذي تحمس للربيع العربي أكثر من العرب أنفسهم، يدخل إلى عش دبابير، ويوقع نفسه في شرك منطقة أعيت العالم منذ بداية الكون، وعلى الأرجح أن تواصل إعياءه إلى ما لا نهاية.
كان الرأي العام العربي، مستعدا للتغاضي بل وحتى للتعاطف مع المواقف التركية، حين كان طابعها موضوعيا، وشديد الانسجام مع الرهانات العربية التي أنعشتها الثورة التونسية ثم المصرية ثم الليبية، ولقد استمر هذا التعاطف العربي إلى أن أطاحت مصر بحكم الإخوان، فكان ذلك بمثابة اختبار كفاءة فرض على الحكومة التركية.
وبكل موضوعية أقول.. لقد أخفقت هذه الحكومة في التعاطي مع المتغيرات، إذ تسرعت في إظهار عداء صريح للحكم الجديد في مصر، بل وبالغت في العداء مثلما بالغت من جهة أخرى في تبني شعارات الإخوان، حتى أوشكت أن تطبع أربعة أصابع على العلم التركي.
كان يمكن لإردوغان، أن يفكر بهدوء، وبمنطق زعيم دولة نوعية، في أفضل السبل لمساعدة الإخوان دون خسارة مصر، ومساعدة الإخوان بتوجيه النصح لهم، واستخدام الرصيد التركي التاريخي في المجتمع المصري، في سياق وساطة تطفئ النيران ولا تزيدها اشتعالا.. كان الحكم الجديد في مصر مستعدا للتعاطي بإيجابية مع اتجاه كهذا، بل إنه صبر طويلا على إشارات استفزازية كانت تصدر من أنقرة، ورغب في تفسيرها على أنها مجرد سوء فهم أو تنطوي على مجاملة أشقاء من فصائل الإسلام السياسي، الذي ينسجم عقائديا ومصلحيا مع الحزب الحاكم في تركيا.
إلا أن الأمر فيما بدا أولا ثم فيما تكرس حتى الآن، اتخذ سرية الموقف الاستراتيجي، الذي أظهرت طرائق التعبير عنه، وسائل معادية على نحو راسخ وصريح.
غير أن ما فعلته الحكومة التركية، وما تفعله حتى الآن، لم يجلب الأذى لمصر وحدها، بل إنه ألحق أذى بالغا بالإخوان المسلمين أنفسهم، بحيث هيأ لهم الدعم التركي والتبني المتحمس كما لو أن ما يفعلونه في مصر، سيؤدي خلال أيام أو أسابيع أو أشهر، إلى الإطاحة بالحكم الجديد، وإعادة مرسي إلى القصر الذي طرد منه عنوة، وبتشييع جماهيري بلغ في أقل التقديرات ضعف ناخبي مرسي.
إن زرع وهم كهذا في رأس الإخوان، يعني تغذية الأزمة وليس دعم ما يسمونه بعودة الشرعية، ففي كل تاريخ مصر القديم والحديث، لم تسجل واقعة واحدة تقول إن من غادر القصر عاد إليه ثانية.
إن التعاطف مع الإخوان، أمر بديهي ومشروع، ما دام هذا التعاطف يتم تحت سقف منطقي وموضوعي، يراعي فيه المتعاطف مصلحة بلاده ثم مصلحة حلفائه.
فأي مصلحة للإخوان في دفعهم إلى ما هم فيه الآن، تحت شعارات تبدو مجيدة إلا أنها في واقع الأمر مستحيلة.
وأي مصلحة لتركيا في إدارة الظهر لمصر الكبيرة لمصلحة رهان على فصيل لا طائل من ورائه.