نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الثلج السياسي

في حياتي.. وأنا في العقد السادس.. ذكريات كثيرة عن الثلج، أختار منها ثلاثا..
واحدة سمعت عنها، ولا أعرف متى وقعت بالضبط، إلا أنها حفرت في ذاكرة الآباء والأجداد تاريخا، بل تقويما.. فهذا الأمر حدث سنة الثلجة الكبيرة، وذاك قبلها، وذاك بعدها..
والثانية عشتها وكانت في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، حيث بلغت سماكة الثلج ما يزيد على المتر.
أما الثالثة.. وهي التي ما زلت أعيشها حتى كتابة هذه السطور، فقد اختلفت عن السابقتين، بقدر ما أخفت وما كشفت.
الثانية التي عشتها كانت الأبسط والأسهل، بحيث لا بنية تحتية أخافنا خللها الكبير، ولا كهرباء يرعبنا انقطاعها ويصيب حياتنا بما يشبه السكتة، ولا انسداد للطرق حيث لا طرق، بل أزقة لا تحتاج إلى جرافات كي يزاح الثلج عنها.. أما التدفئة، فقد كانت أفضل من التي تعودنا عليها في زمن الكهرباء، وقوامها عود ثقاب وكومة حطب.
الثلجة الحالية، المصحوبة بأمطار حولت مدنا بأسرها كما لو أنها البندقية، حيث التنقل من حي إلى آخر بالزوارق، فقد أخفت فيما أخفت، فشلا لوزير الخارجية المصمم والدؤوب جون كيري، ذلك بعد أن غطت الثلوج موكبه على أبواب القدس، كما لو أنها ترفع بطاقة بيضاء بمفعول الحمراء، تقول له: حذار من الإفراط في التبسيط والتفاؤل، ذلك أن العوائق المتراكمة حول المدينة تحتاج إلى جرافات من نوع مختلف كي تزيلها، وأنت لا تزال تستخدم نفس الجرافة التي استخدمها كثيرون قبلك بلا فائدة!
والثلجة الحالية كشفت عن هشاشة الحالة الفلسطينية التي فعلت الثلجة فيها ما لم تفعله أي حرب، وحتى الآن، لم تتأكد أي جهة معنية من حجم الخسائر، وفداحة أو تلاشي أساسات البنى التحتية للحياة. ومع أننا لا نلوم في هذه الحالة، بل نصور ونسجل، إلا أن معظم الأشياء في بلادنا، بدت ملفقة ومصطنعة في غياب استقلال يوفر حمايات لتنمية راسخة، وضمانات لخسائر أقل في حال وقوع عاصفة ثلجية أو ما هو أقل منها، ومع أننا نتباهى بأن إسرائيل التي تتباهى علينا بقدراتها الخارقة، واجهت ما واجهناه وترنحت تحت ثقله، إلا أن وضعنا يظل مختلفا وإمكانياتنا للنهوض من العاصفة تظل أقل بكثير من إمكانات جيراننا.
غير أن الفلسطينيين الذين تعودوا على حياة محفوفة بالأخطار والأزمات من كل نوع، استقبلوا بأسى مضاعف الكوارث المميتة، التي أصابت قطاع غزة، وحملت أهلها على الإعلان للمرة الألف بأنها منطقة منكوبة، ولقد أدى الشعور الفلسطيني العام بفداحة المأساة إلى اختراع شائعة ربما أنتجها الميل الشعبي الغريزي لساعة فرج، تقول هذه الشائعة، إن غزة ورام الله اتفقتا على الوحدة وإنهاء الانقسام من أجل تجاوز كوارث الثلج في الضفة، ومآسي الفيضانات في غزة، وعاشت هذه الشائعة ساعات قليلة، ما حمل الناس على الاعتقاد بأن الأمر صحيح وأن سادة القوم تعقلوا، وتلمسوا بمسؤولية عالية حاجة الوطن إلى الدفء الوحدوي، والإنقاذ من الكوارث بالتضامن والتكافل، إلا أن ما اكتشفه المواطن «الغلبان» حقيقة ينطبق عليها القول «شر البلية ما يضحك» فقد صدر نفي قاطع من قبل الجانبين بأن أمرا كهذا لم يحدث، وأنه محض اختراع، كان سبب تأخير النفي هو انقطاع التيار الكهربائي وبطء حركة أهل الإعلام أو انشغالهم عن الشأن السياسي بالثلج وما فعل.
ما أحلى ذكريات الثلجتين الكبيرتين السابقتين، وما أعمق بساطتهما وما أقل خسائرهما.. أما الثلجة التي نحن فيها الآن، والتي تراكم فيها الثلج السياسي الفتاك فوق الثلج الطبيعي الأبيض الناصع، فلا نملك إلا أن نقول بشأنها «اللهم خفف الخسائر ولو حتى بالوقوف على حافة الموت واحمنا من الثلجة القادمة».