يبدو لي كمراقب أن ثمة رغبة عند القوى النافذة في المجتمع الدولي، وتحديدًا في الغرب، أن تتعامل مع العراق تحت حكمه الحالي على أنه صيغة مقبولة، تحكمها سلطة لا بأس بها، وكقطعة من «الدومينو» الإقليمي المرغوب فيه.
هذا الرأي لا يحظى بالضرورة برضا بعض المحللين الغربيين، وبالذات الذين ينتقد بعضهم نوري المالكي لتفريطه بالهدية التي قدّمت له ولرعاته عام 2003، أو أولئك الذين يبادرون اليوم إلى التمييز بين ديكتاتورية وديكتاتورية، ويعتبرون أن ما أنجزه غزو العراق ما كان غلطة بل كان يستحق العناء.
أمثال هؤلاء أطلّوا علينا خلال السنوات الثلاث الأخيرة ليقولوا لنا إن بشار الأسد يظل «أفضل الموجود» في سوريا، وبالتالي لا حاجة إلى تغييره إذا كان مَن سيأتي بدلًا منه سيكون أسوأ. ومع الأسف، منذ ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، ومعه حفنة من التنظيمات والجماعات الجهادية على الساحة، ارتفعت أصوات هؤلاء أكثر، بالتوازي مع الجهود الحثيثة التي كانت تُبذل وراء الستار لتبديد أي زخم يتجمّع لدعم انتفاضة الشعب السوري. أي الجهود التي عملت وتعمل للمحافظة على نظام أمني - طائفي حوّل سوريا إلى «صندوق بريد» و«ردهة مقاصة» بين اللاعبين الإقليميين والدوليين الكبار.
موضوع «الكيل بمكيالين» ليس جديدًا في ما يخصّ التعامل الغربي مع العالم العربي. وها نحن، مهما كانت الأعذار، نقف أمام حالة أخرى من الانتقائية والاستنساب.
ثم إننا لا ندري بالضبط، حتى اللحظة، نسبة مقاتلي «داعش» من مجموع القوى الثائرة على نظام حكم المالكي في العراق. لكن ما نعرفه حقًّا أن رئيس الوزراء العراقي لم يتعامل طيلة ثماني سنوات تولّيه الحكم كرجل دولة. وكان الدليل الأفصح على أنه لم ولا ينظر إلى نفسه كرجل دولة هو أنه عندما تهدّدت سلطته أطلق النداءات المذهبية واستنفر الغرائز الطائفية في بلد يفترض أن واشنطن اطمأنت فيه إلى وجود مؤسسات تتيح لها سحب قواتها من أرضه.
ثم إن جماعات التطرّف الجهادي التي تسوّغ اليوم لواشنطن العودة إلى العراق للدفاع عن نظام المالكي كانت موجودة في العراق حيث تصدّت لها الصحوات السنّية. وعندما ظهرت على أرض سوريا دخلت في معارك مع قوى الشعب السوري المنتفضة على نظام الأسد.
اليوم، مهما كانت المبرّرات الأميركية والغربية - التكتيكية والاستراتيجية - للمسارعة إلى الدفاع عن سلطة «الأمر الواقع» في بغداد، فإنها في الحصيلة النهائية لن تؤدي سوى إلى حماية مشروع إقليمي توسّعي حاولت الدوائر الغربية مرارًا نفي تهمة قبولها به ومباركتها له. وكما هو معروف، ظل هذا هو الموقف الغربي الرسمي وشبه الرسمي حتى انكشاف أمر المفاوضات الأميركية الإيرانية.
تحمّس واشنطن للتحرّك بسرعة في العراق، بعدما غضّت الطرف على امتداد السنوات الثلاث الماضية عن فظائع الأسد في سوريا، ودفعها كما يقال - أيضًا في الظل - إلى صفقة في لبنان... تسهل عمليًّا «شرعنة» إمساك «حزب الله» بمقاليد السلطة... يكمل صورة من الواضح أنها لا ترفضها للمنطقة.
بكلام آخر، هذه السياسة تضع شعوب المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ للهيمنة الإيرانية المطلقة، أو التقسيم الذي لا يمكن أن يفضي إلا إلى العيش في «منظومة انتداب» جديدة على غرار ما حدث في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى. ومنطق الأمور، كما تتجلّى الآن، يسير باتجاه رسم خرائط جديدة تقوم على الفرز السكاني لمكوّنات كيانات ربما استنفدت الغاية من بقائها كما هي منذ 1920 بعد سقوط الدولة العثمانية. وهذا ما يحدث في سوريا ولبنان والعراق إما عن طريق القتال أو شراء الأراضي أو «خليط» الشراء بحكم الاضطرار للبيع في أعقاب التهجير والنزوح القسري.
ومن ثَم، بعد رسم الخرائط البديلة، قد نرى قريبًا «انتداب» القوى الإقليمية الثلاث غير العربية للتشارك في إدارة المنطقة بمباركة القوى الكبرى، فتغدو إيران راعية الشيعة والناطقة باسمهم، وتركيا حامية السنة والمساندة لظلاماتهم، وإسرائيل ضامنة حقوق الأقليات الباقية إن بقيت هناك أقليات.
المشهد قد يبدو سرياليًّا بعض الشيء... لكن أحدًا لا يستطيع القول إنه يفتقر إلى المنطق.
أساسًا، إبّان عصر الجاهلية، اصطنعت الإمبراطوريتان البيزنطية (الرومية) والساسانية (الفارسية) دولتين تابعتين هما دولة اللخميين المناذرة في العراق ودولة الغساسنة في الشام لتؤدّيا دور «حرس حدود» للإمبراطوريتين الكبيرتين من هجمات عرب الجزيرة العربية. ومن الناحية الجيو - سياسية، وبالنظر إلى سهولة التعامل مع الدول المركزية القوية مقابل تعذّر التعايش مع الفوضى وتعدّد الشراذم، يكون «السيناريو الانتدابي» منطقيًّا جدًّا.
وأنا أتصور أنه عندما عكفت القيادتان الأميركية والبريطانية على الإعداد لغزو العراق، بعدما مهّدتا للغزو بحرب نفسية - دعائية مكثفة لخلق مناخ مؤيد للحرب في البلدين، ما كانتا تجهلان عواقب إزاحة ديكتاتورية صدام حسين... في كيان صنع من مكوّنات متعددة عرقيا ودينيا ومذهبيا ضمتها الولايات العثمانية السابقة. وعندما رصدت واشنطن مليارات الدولارات لشنّ الحرب بهدف التخلص من أجل «التخلص من أسلحة الدمار الشامل» لـ«خامس أكبر جيش في العالم» وإسقاط النظام «الذي يقتل شعبه بالأسلحة الكيماوية» و«يهدد جيرانه»، ما كانت تجهل جغرافيا المنطقة التي يقع فيها العراق، وبالأخص أن له جارين كبيرين غير عربيين، هما إيران وتركيا.
ثم إن الخبراء في بريطانيا، الدولة التي صنعت العراق بحدود 1920، يعرفون جيدًا أن بغداد ظلت تحت السلطة العثمانية التركية حتى عام 1917، وأن إيران تعتبر بغداد مدينة فارسية الاسم، وفي ضواحيها المدائن (طيسفون) عاصمة الإمبراطوريتين البارثية والساسانية.
لكل ما سبق، أخشى أن نكون اقتربنا من يوم عودة الآخرين إلى رسم خرائط كياناتنا... بعدما أخفقنا في تطويرها من كيانات وإقطاعات.. إلى أوطان، وبقينا رعايا بعدما فشلنا في التحول إلى مواطنين أحرار.
TT
هل نحن على أبواب «عصر الانتداب الجديد»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة