على الرغم من حقيقة أن مؤتمر الرياض الخاص بمحاربة الإرهاب لم يمض عليه أكثر من أسبوعين، حيث جاء أحد أهم قراراته افتتاح مركز دولي للوسطية لدراسة أهم أسباب التطرف والإرهاب، فإن واقع الحال في دولنا الخليجية يؤكد من خلال الممارسة بأن نفوذ وهيمنة تيارات الإسلام السياسي لا تزال قوية ومهيمنة على المجتمع والدولة... ففي الكويت نشرت صحف يوم الجمعة 26 مايو (أيار) 2017 خبر تحويل بعض طالبات الثانوية للتحقيق، لأن الطالبات وبموافقة أهاليهن أقمن حفلاً غنائياً خارج المدرسة احتفالاً بانتهاء الامتحانات وتخرجهن... مما أزعج جماعات الإسلام السياسي في مجلس الأمة، فاعترضوا على الاحتفال وطالبوا بالتحقيق مع المسؤولين في المدرسة والوزارة.
وفي حادث آخر، احتفلت بعض الطالبات خارج المدرسة الثانوية وفي موقف السيارات بالرقص لمدة قصيرة ابتهاجاً بانتهاء الامتحانات، هذا الحادث البسيط أثار حفيظة نواب الإسلام السياسي وطالبوا الوزارة بالتحقيق مع الطالبات.
هذه الأحداث البسيطة في الكويت التي تتمتع بنظام شبه ديمقراطي وحريات شخصية يكفلها الدستور، تتجرأ جماعات إسلامية بفرض وصايتها على طالبات يحتفلن بمناسبة خاصة لهن خارج أسوار المدرسة.
إن معضلة الإسلام السياسي بجميع أحزابه وتشكيلاته هي أنهم ليسوا حركات تجديد وتطوير وإصلاح إسلامي، بل هم حركات دينية حزبية يهدفون للوصول إلى السلطة، وفرض هيمنتهم على المجتمع فهم يرفعون شعارات يخدعون بها الناس البسطاء من المؤمنين مثل شعار «الإسلام هو الحل» دون أن يوضحوا معنى هذه العبارة، ووضع خريطة طريق في كيفية الوصول عملياً لهذا الهدف.
إن الرضوخ الحكومي لمطالب جماعات الإسلام السياسي يجعل الناس تعتقد بأن من يقود البلد ويقرر مسيرته ليس الدستور الذي يضمن الحريات ويفصل صلاحية السلطات الثلاث (التنفيذية - التشريعية - القضائية) بل الجماعات المتطرفة التي تقدم مشاريعها ورؤيتها كبديل عن برامج السلطة الشرعية... المشكلة أن السلطة تتصور نفسها بأنها يمكن أن تحتوي الجماعات الإسلامية وتخضعها لنفوذها بتنفيذ مطالبها... لكن ماذا عن مصادرة حريات الأفراد الشخصية التي هي في حدود المعقول.
هذه الجماعات المتشددة في الكويت أو غيرها من دول الخليج تقوم على إلغاء وظيفة ودور الإنسان والمجتمع فيما يتعلق بالشأن العام، وتحويلها لمسؤولين وعبء على الجماعة الإسلامية، لكونها، وكما تدعي، الوكيل والوصي عن الخالق سبحانه.. على عكس الآيات القرآنية التي جعلت الإنسان مسؤولاً عن نفسه ومجتمعه أمام الله وليس أمام الجماعة، المعضلة هنا أن الحكومة الكويتية وغيرها في دول الخليج ترضخ لمطالب هذه الجماعات، متصورة أن أعمالها وتصرفاتها هي لحماية الدين، بينما الواقع هو موقف سياسي بعيد كل البعد عن الدين.
المشكلة التي لا تعيها الأنظمة الخليجية في محاولتها لمحاربة التطرف والإرهاب وفرض الوسطية من خلال إنشاء مركز عالمي للوسطية، هو أن نشأة مثل هذه الجماعات في التاريخ العربي الإسلامي ارتبطت بالخروج من الوسطية إلى التطرف، ومن الاعتدال إلى التزمت، ومن التيار العام إلى الفرق الضيقة.
التجارب الإنسانية في الغرب مع الوسطية والاعتدال والتسامح تخبرنا بأن الفرق بالمذاهب الدينية في المسيحية خرجت من الانغلاق والتشدد الديني، إلى الانفتاح والاعتدال بعيداً عن التزمت، حيث انتشرت أفكار التسامح الديني مع بروز القس مارتن لوثر الألماني الذي روج للمذهب البروتستانتي، بدلاً من المذهب الكاثوليكي المغلق.
السؤال الذي علينا طرحه كيف يمكن لمجتمعات الخليج ودول الخروج من عقلية التزمت والانغلاق، إلى رحاب الانفتاح والحرية والوسطية والتسامح مع الآخرين إذا كانت الكويت، وهي أكثر دول الخليج انفتاحاً وحرية، قد ضايقها وأزعج ها احتفال بسيط كالذي ذكرناه آنفاً، وذلك باحتفال الطالبات بتخرجهن خارج أسوار المدرسة وبموافقة ورضا أولياء الأمور... فكيف يمكن لدول الخليج العمل على تغيير المناهج البالية في المدارس، ومعالجة هذه الأزمة الفكرية؟ نقول على الرغم من الصعوبة إلا أنه حتما ستنتصر الوسطية على التشدد والتسامح على الكراهية.
8:2 دقيقه
TT
من أين يأتي التطرف؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة