خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

محنة السياسة.. النخبة الافتراضية

لن يطول الأمد قبل أن يهدأ غبار الانتخابات الرئاسية في مصر، ليجد الجميع أنفسهم مجددا في مواجهة تحدي أن المجتمعات التي تنشد التغيير حقا لا تقف بانتظار ما يجود به حكامها من وعود أو إشارات، وأن رهانها الحقيقي هو قدرة القوى السياسية وقوى المجتمع الحية على الفعل، لا الوقوف على أبواب الرجاء أو الهجاء، أو البكاء.
هنا تكمن «محنة السياسة» ويتجلى «بؤس النخبة» في المشهد السياسي بعد أكثر من ثلاث سنوات على ثورة فتحت آفاق المستقبل لبناء مصر الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني، وهو ما أكده المصريون مجددا بما أظهروا من حيوية متجددة ووعي يقظ وعزم لا يلين لتخطي أي تحديات تعترض حلمهم في غد أفضل، إلا أن معضلة تنظيم قوى الشعب المتطلعة إلى المشاركة بفاعلية في صنع المستقبل تبقى هي التحدي الأكبر أمام مختلف القوى السياسية.
لم يخفف من وطأة هذه الأزمة ما تحقق بالفعل من إزالة العوائق القانونية أمام حرية تأسيس الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وتفكيك كيان حزب السلطة الحاكم، كأحد أبرز إنجازات ثورة 25 يناير (كانون الثاني). ولم تبادر القوى المدنية الديمقراطية أيضا إلى استثمار أهم ما أنجزته ثورة 30 يونيو (حزيران) من الإطاحة بحكم «الإخوان» وفضح نهجهم، ومن لف لفهم، في تضليل البسطاء باسم الدين على مدى عقود طويلة.
كما لم تظهر هذه القوى قدرتها على الاستفادة من فرص هائلة يوفرها الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، خاصة مع تلاشي احتكار الدولة لوسائل الإعلام، بل المفارقة أن أغلب رموز النخبة السياسية وقعوا في فخ الاكتفاء بهذه الأدوات بديلا عن التواصل الحي مع الجمهور والاشتباك العملي مع الواقع وقضاياه، مما أسفر عن تحولهم عمليا إلى «نخبة افتراضية» لا أثر لها على أرض الواقع.
وتعطي أجواء معركة الانتخابات الرئاسية 2014، فضلا عن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة وثلاثة استفتاءات جرت منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، مؤشرات - يصعب تغافلها - على استمرار غلبة القوى التقليدية الأكثر نفوذا في الواقع السياسي (العصبيات القبلية والدينية، وقوى المال والسلطة) على حساب الأحزاب المدنية والقوى الثورية الجديدة، التي لم تنجح بعد في بلورة رؤية سياسية وتأسيس بنية تنظيمية تعزز فرص تأثيرها في الشارع أو المراهنة عليها كأحزاب مؤهلة للحكم.
يعكس ذلك، الواقع الهش لكيانات الأحزاب والقوى المدنية عامة، فضلا عن انعدام التنسيق وخبرة العمل المشترك بين هذه القوى لتبني أهداف وبرامج عملية تسهم في خلق واقع جديد يستوعب متغيرات ما بعد ثورة 25 يناير- 30 يونيو. ولم يعد مجديا الاستمرار في التماس الأعذار بما جرى من تجريف للحياة السياسية على مدى عقود طويلة، أو الهلع من ظهور عناصر وقوى محسوبة على النظام القديم في المشهد مجددا، أو التباكي من سطوة المال أو السلطة على الإعلام ومنابر التأثير في الرأي العام، أو التعلل بانتشار الأمية والأموال السياسية، وغيرها من أعذار لا تصلح مبررا لاستمرار الوهن البين في الأداء السياسي لقوى ترفع شعارات الثورة والتغيير ولا تبدي عزما على بذل الجهد المطلوب لامتلاك القدرة على التأثير والعمل الجاد لتغيير هذا الواقع البائس.
زاد من بؤس الصورة ما يكتنف المشهد السياسي الراهن من محاولات محمومة لملء هذا الفراغ من قوى تتأهب للانقضاض على الثورة، سواء من عناصر النظام القديم، أو قوى التطرف والإرهاب، أو جماعات تحوم حولها شبهات الارتباط بأجندات خارجية، توجيها وتمويلا، مما عزز غلبة اعتبارات تدخل حاسم من مؤسسات الدولة العميقة بمساندة شعبية ترى مخاطر حقيقية تهدد كيان الدولة وتعصف بمؤسساتها، على غرار ما نشهده في الكثير من بلدان المنطقة.
ولا تمثل الخيارات السابقة بالطبع علاجا ناجعا للخلل في بنية الممارسة الديمقراطية، مما يستدعي مبادرة جادة وعاجلة من القوى السياسية وقوى المجتمع الحية، تختبر قدرتهم العملية على إعادة التوازن في الخريطة السياسية الراهنة، بجهد دؤوب لاستكمال بنية الأحزاب القائمة واندماج بعضها في كيانات قوية تمتلك المقومات الفكرية والمؤسسية لطرح رؤى جديدة تسهم في جذب الشباب والقوى الثورية المشتتة إلى حلبة الحياة السياسية، بما يعكس أداء سياسيا يليق باستحقاقات الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، وبما يفي بمتطلبات تشكيل حكومة تتوافر لها مقومات إعادة بناء مؤسسات دولة مصر الثورة.
هل تبدو هذه المهمة أقل أهمية لدى رموز سياسية لم تختبر قدراتها بعد بعيدا عن غواية الفضائيات والعالم الافتراضي؟

* كاتب ومحلل سياسي مصري