مع اقتراب الرئيس ترمب من المؤشر المعياري للمائة يوم الأولى من رئاسته للبلاد، فإنها تعد من اللحظات المواتية لدراسة العلاقة التي تطورت بين الرئيس، دونالد ترمب، زئبقي النزعة وقليل الخبرة السياسية، ووزير دفاعه رابط الجأش وثابت الجنان، جيمس ماتيس.
إنها نوع من الشراكات غير المتصورة، ولكنها أثبتت فعاليتها في العمل والنجاح حتى الآن. ربما يكون للرئيس ترمب القليل نسبياً من الإنجازات السياسية المحلية التي تمكن منها خلال الأشهر الثلاثة المنقضية، ولكن يمكن نسبة الفضل إليه في اختيار فريق متين وراسخ للأمن القومي وللاستماع لنصائح رجال هذا الفريق.
ولقد أتيحت لي الفرصة، من خلال مرافقة وزير الدفاع الأسبوع الماضي في رحلته الأخيرة إلى منطقة الشرق الأوسط، لمشاهدة تحقيق التوازن الدقيق بين البيت الأبيض المشتهي للتغطيات الإعلامية الجريئة وقيادة الأمن القومي الأميركي التي يسعدها كثيراً الابتعاد تماماً عن أضواء الإعلام والأخبار.
ولقد ركز السيد ماتيس، خلال اجتماعاته رفيعة المستوى في السعودية، ومصر، وإسرائيل، على قضايا التحالف. ولكن التقارير الإخبارية الكبيرة التي نشرت الأسبوع الماضي كانت تتعلق وتدور حول الاستعراض الرمزي للقوة العسكرية الأميركية من قبل تحريك حاملة الطائرات «يو إس إس كارل فينسون»، ومن قبل استخدام أكبر الأسلحة الأميركية غير النووية في أفغانستان التي تحمل اسم «أم القنابل»، الأمر الذي أسعد الصحافيين أيما سعادة. ويكافح الجنرال ماتيس من أجل التكيف مع هذا الفضاء اللانهائي من المعلومات المتغيرة باستمرار، كما أن رسائله المنبعثة ليست واضحة على الدوام.
يعتبر الجنرال ماتيس غريب الأطوار إلى درجة ما وفق المعايير العسكرية التي شكلت شخصيته، وهو يميل إلى دراسة الفلسفة الرومانية باللغة اللاتينية، كما أنه يحب أن يقترح على قواته عناوين الكتب التي يمكنهم قراءتها. ولكن على غرار كل جندي ناجح من مشاة البحرية الأميركية، وباعتباره من جنرالات الجيش المعروفين، فهو لاعب فريق من الطراز الأول الذي يتحرك ضمن فريقه، ونادراً ما يأخذ خطوات منفردة عنهم.
وما يعنيه ذلك من الناحية العملية هو أن الجنرال ماتيس قد ارتبط مع مستشاري الرئيس ترمب الكبار الآخرين في شؤون السياسة الخارجية، مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر، ووزير الأمن الداخلي جون كيلي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو. وهذه مجموعة من الرجال الأقوياء، وأصحاب الثقة العالية بالنفس، مما يشير إلى وجود قدر ضئيل من الاقتتال الداخلي الذي يميز الدائرة القريبة من مستشاري الرئيس ترمب.
وربما أقرب الروابط، المثيرة للاهتمام، هي التي تجمع الجنرال ماتيس مع ريكس تيلرسون، الرئيس التنفيذي الأسبق لشركة إكسون موبيل النفطية العالمية، الذي خاض غمار الدبلوماسية الدولية في الآونة الأخيرة. ويعتقد الجنرال ماتيس أن السياسة الخارجية الأميركية قد «تعسكرت» بشكل مفرط في السنوات الأخيرة، وأن وجود صوت قوي لوزارة الخارجية الأميركية هو من الأهمية بمكان.
دارت عجلة الأمن القومي الأميركي بصورة جيدة إبان التخطيط وتنفيذ الهجوم الصاروخي خلال الشهر الحالي على مطار الشعيرات التابع للنظام السوري. وخلال ساعات من الهجوم الكيماوي السوري على السكان المدنيين، كان ماتيس يعرض الخيارات المتاحة للإدارة الأميركية والمستقاة من قائمة خطط الطوارئ. واستعدت وزارة الدفاع الأميركية لاحتمال التدخل الروسي بدرجة من الدرجات. وتوقع المخططون الأميركيون نجاح الضربة الصاروخية بنسبة 85 في المائة بالنسبة للولايات المتحدة، واتضح من واقع الأحداث أن معدل نجاح العملية كان أقرب إلى 95 في المائة.
ومن الألغاز التي تواجه ماتيس في هذه الأيام كيفية التحرك في هذا العالم المفعم بالتغيرات والتقلبات المستمرة، ولا سيما عندما يسعى الرأي العام (أو على أدنى تقدير، وسائل الإعلام المختلفة) إلى الحصول على إجابات أحادية اللون. ولقد أشار ماتيس في مقابلة شخصية أجريت معه إبان الرحلة الأخيرة إلى أن تيلرسون قد عرض تفسيراً دقيقاً للتصرفات الإيرانية (من حيث الامتثال لبنود الاتفاق النووي مع استمرار التدخل في شؤون المنطقة)، ولكن التغطية الإعلامية ركزت جهودها على الجانب السلبي من التصريحات. ويحتاج صناع السياسات في بعض الأحيان إلى الإفصاح عن فكرتين متعارضتين ولكنهما متوازنتان، ولقد أوضح ماتيس ذلك بقوله: «عالمنا ليس أبيض وأسود فحسب».
ومن الأمثلة الواضحة على التفاعل القائم بين القضايا الدبلوماسية والعسكرية استراتيجية استعادة مدينة الرقة السورية، عاصمة الخلافة المزعومة لدى تنظيم داعش الإرهابي في شرق سوريا. فلقد أعلن الرئيس ترمب عن وجود خطة سرية للانتصار في هذه المعركة، غير أن النقاش السياسي الفعلي لا يزال متسماً بكثير من التعقيد ولم يتم تسويته حتى الآن. ولقد أوصت القيادة العسكرية المركزية الأميركية بتنفيذ تحرك عسكري سريع للاستيلاء على مدينة الرقة، بواسطة قوة عسكرية تحت قيادة الأكراد السوريين. وتكمن المشكلة في أن الجانب التركي يعتبر المقاتلين الأكراد، المعروفين إعلامياً باسم وحدات الحماية الشعبية، من التهديدات القاتلة، وقام الجيش التركي يوم مؤخراً بقصف معسكرين تابعين لتلك الوحدات الكردية.
ومع الاحترام الذي أولاه الجنرال ماتيس لنصائح القيادة المركزية الأميركية، ومستوى الإلحاح الذي يفرضه الواقع على الأرض، فإن وزير الدفاع اقتنع برؤية تيلرسون وغيره من المستشارين بإجراء مراجعة أكثر دقة وحصافة للسياسة. فمن شأن الضربة الخاطفة، التي قد تغضب تركيا، أن تعكس نجاحاً تكتيكياً كبيراً على الأرض، ولكن مع انتكاسة استراتيجية مؤثرة. ويستمر النقاش السياسي (على الرغم من أن المسؤولين قالوا إنه يجب تحذير تركيا من تكرار محاولات قصف المعسكرات التابعة لوحدات الحماية الشعبية الكردية).
والأمر الذي طرحه الجنرال ماتيس وغيره من القادة العسكريين السابقين على طاولة الأمن القومي أمام الرئيس ترمب، وربما هو من المفارقات، هو الاحتراز الشديد من الالتزامات العسكرية المتعجلة بصورة مفرطة. ومن خلال المناقشات حول وقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية، على سبيل المثال، يدرك مخططو وزارة الدفاع الأميركية أنه يمكن لمدينة سيول المزدهرة الصاخبة أن تتحول إلى ستالينغراد قاتمة أخرى في معركة شائنة تستند إلى تخطيط معيب وقاصر.
وحول ما وصفه ماتيس بالأوضاع «المروعة» في سوريا، أعرب وزير الدفاع الأميركي عن قلقه من «أننا نشهد إعادة إضفاء الطابع البدائي على هذه الحرب»، من خلال استخدام الأسلحة الكيماوية وقصف الأطفال، والمستشفيات، ودور العبادة، وغير ذلك من الأهداف الأخرى المحظورة دولياً. وأصر ماتيس قائلا: «لا بد من محاسبة الناس ومساءلتهم عن ذلك».
ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ كانت الدراما الخفية للمائة يوم الأولى من رئاسة ترمب تتعلق بالتفاعل الحقيقي بين فريق السياسة الخارجية والبيت الأبيض الذي شرع لتوه في التفكير في كيفية استخدام قوة الولايات المتحدة في عالم مكلل بالمخاطر.
* خدمة «واشنطن بوست»
TT
ماتيس وترمب: الرفيقان المتضادان المتوافقان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة