من المؤكد أن منظمة العفو الدولية لو سُمح لها بالتدقيق فيما ارتكبه نظام بشار الأسد من مذابح متنقلة منذ انفجار الثورة السورية في عام 2011 وحتى الآن لاكتشفت أنَّ هذا البلد الذي ابتلي بهذا النظام، إنْ في عهد «الوالد» وإنْ في عهد «الولد»، أصبح كله عبارة عن مسلخ بشري كبير أُزهقت فيه أرواح مئات الآلاف من السوريين، وإنَّ سجن صيدنايا العسكري، الذي شهد مذابح جماعية بالشنق وبالإعدامات الميدانية ومن دون أي محاكمات، يشكل نقطة في بحر، وأنه إذا سُمح لهذه «المنظمة» بتقصي حقائق الأمور فإنها ستكتشف عشرات السجون السرية التي أُزهقت فيها أرواح عشرات... لا بل مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري الذين جرى اعتقالهم عشوائيًا، ووفقًا لانتماءاتهم الجهوية والمذهبية والطائفية.
والواضح، لا بل المؤكد، أن نظام بشار الأسد لن يستجيب لطلب منظمة العفو الدولية هذه ويفتح أبواب سجن صيدنايا للمراقبين الدوليين ليطلعوا على أوضاع المعتقلين في هذا السجن ويتأكدوا من حقيقة إزهاق أرواح ثلاثة عشر ألفًا من نزلائه المدنيين في الفترة بين عام 2011 وعام 2015 فهذا سيكون بداية الخيط، كما يقال، لاكتشاف أن سوريا كلها قد تحولت خلال نحو نصف قرن من حكم «الوالد» و«الولد» إلى ساحة إعدامات كبيرة، وأن هناك سجونًا سرية داخل المدن السورية وفي معسكرات «الجيش العربي السوري»!! قد شهدت أبشع كثيرًا مما شهده هذا السجن العسكري في هذه المدينة التاريخية الجميلة.
تقع صيدنايا هذه المدينة الصخرية الجميلة على بعد نحو ثلاثين كيلومترًا شمال غربي العاصمة دمشق في سلسلة جبال القلمون، ويبدو أنها أخذت هذا الاسم الذي يعني «صيد الغزالة» إما من الفينيقيين الذين يطلقون على ما يعتبرونه صيدا اسم «صيدون»، أو من الآراميين الذين تقول أساطيرهم إن غزالة تم اصطيادها في هذا المكان قد تحولت إلى امرأة جميلة أقيم لها نصب بقي لفترة طويلة قبل أن تتم إزالته ولأسباب غير معروفة.
والواضح أن هذا النظام الذي «طرَّز» أرض «القطر العربي السوري»، حسب مصطلحات حزب البعث، بالمعتقلات والسجون العلنية والسرية قد اختار هذا المكان الجميل لإنشاء واحد من أبشع سجونه العسكرية لإبعاد الشبهات عن نفسه وليمارس جلاوزته وجلادوه هواياتهم الدموية بعيدًا عن عيون الفضوليين وعيون مراقبي الهيئات الدولية، الذين يقال إنهم تمكنوا من الحصول على مئات التقارير والأدلة والصور أيضًا عن هذا المسلخ البشري وعمّا جرى فيه خلال الفترة من عام 2011 وحتى عام 2015.
والمهم أن هذا النظام، الذي ينطبق عليه ذلك المثل القائل «إن من في بطنه حمصًا لا يستطيع النوم»، وأيضًا ذلك المثل القائل «كاد المريب يقول خذوني»، قد بادر إلى نفي تقارير منظمة العفو الدولية عن هذا السجن الذي أصبح، مثله مثل كثير من السجون السورية المعروفة وغير المعروفة، مسلخًا بشريًا بل اتهم هذه المنظمة بأنها تنفذ «أجندات» جهات «إمبريالية» معادية لسوريا، التي حسب وصفه وادعائه، تشكل القلعة المتقدمة في مواجهة «العدو الصهيوني»!!
في كل الأحوال تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا السجن قد بدأ يتحول إلى مسلخ بشري بعد عصيان قام به سجناؤه في عام 2008، وحيث قامت الشرطة العسكرية (الأسدية)، إمعانًا منها في إهانة هؤلاء السجناء، الذين كان ينتمي بعضهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، بتمزيق نسخ القرآن الكريم التي وجدوها مع هؤلاء النزلاء و«الدوس» عليها بالأحذية، والعياذ بالله، وهكذا فقد أصبح معتقل صيدنايا مكانًا للمذابح الجماعية والتفنن في تعذيب أبناء الشعب السوري.
وهنا، فإن ما يجب أن يقال إن تاريخ هذا النظام هو تاريخ سلسلة مذابح متلاحقة، أولها مذبحة حماه الأولى في عام 1964، ثم بعد ذلك «كرَّت المسبحة»، كما يقال، فكانت مذبحة تدمر حيث بادر رفعت الأسد، بعد يوم من محاولة فاشلة لاغتيال شقيقه حافظ الأسد، لنقل مائة من الجنود والضباط من منتسبي ما كان يسمى «سرايا الدفاع» بالطائرات المروحية التي بلغ عددها 12 طائرة إلى مطار تدمر، الذي يحتله الآن تنظيم داعش الإرهابي، ومن هناك بدأ الهجوم على سجن هذه المدينة الصحراوية وتم قتل نحو ألف من نزلائه عشوائيًا برصاص البنادق الرشاشة وبالقنابل اليدوية، حيث تم دفن جثامينهم في حفر كانت أعدت سلفًا في وادٍ يقع إلى الشرق من هذه البلدة التاريخية.
ولعل ما هو معروف أن سنوات بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي كانت سنوات قلاقل وعدم استقرار ومذابح، وأن مذبحة مدرسة المدفعية في حلب في عام 1979 التي قتل فيها عدد من الطلبة العسكريين غالبيتهم من الطائفة العلوية كانت بداية لسلسلة طويلة من المجازر المتلاحقة أبشعها مجزرة حماه التي قاد حملتها أيضًا رفعت الأسد في فبراير (شباط) 1982، وأسفرت حسب التقديرات عن مقتل أربعين ألفًا من أبناء هذه المدينة.
لقد جرى هدم ثمانية وثمانين مسجدًا، وثلاث كنائس، وهروب مئات الآلاف من أهل حماه، وتجدر الإشارة هنا إلى أنني عندما كنت، إضافة إلى عملي في القسم العربي والدولي في صحيفة «السفير» اللبنانية التي توقفت عن الصدور الورقي قبل نحو ثلاثة أسابيع، وللأسف، أعمل مراسلاً لمجلة «المجلة» اللندنية، قد حصلت على بعض صور ما حدث في هذه المدينة من أحد مراسلي إحدى الصحف الغربية الكبرى الذي قال لي إنه حصل عليها من مراسل وكالة الصحافة الفرنسية، وهكذا فقد كانت «المجلة» هي المطبوعة العربية الوحيدة التي نشرت عددًا من صور تلك المذبحة البربرية البشعة.
إن السكوت عن حافظ الأسد وإغماض العيون عن سلسلة الجرائم التي ارتكبها حتى قبل تسلمه الحكم في عام 1970، وأولها جريمة الحكم على سليم حاطوم بالإعدام بعد محاكمة لم تستمر إلا لدقائق معدودات، وجريمة اغتيال محمد عمران (العلوي) الذي كان رئيسًا للجنة العسكرية (السرية) التي تشكلت في القاهرة خلال الوحدة المصرية - السورية، واغتيال أكثير من الزعامات اللبنانية التي بينها القائد (العروبي) كمال جنبلاط، قد شجع ابنه بشار الأسد الذي انتهى إليه الحكم بضربة حظٍ، كما يقال، على ارتكاب تلك الجرائم التي ارتكبها في لبنان، والتي استكملها بالجرائم التي ارتكبها بعد انتفاضة عام 2011 في سوريا، ومن بينها جريمة سجن صيدنايا العسكري، هذه الآنفة الذكر التي لا تزال التحقيقات الدولية بشأنها مستمرة ومتواصلة.
وهنا، فإن المشكلة أن الروس، الذين بادروا إلى وضع العصي في دواليب لجنة المعارضين الذين سيذهبون إلى «جنيف4» قد انحازوا إلى بشار الأسد في هذه المواجهة أيضًا بوصف تقارير منظمة العفو الدولية بأنها «استفزازية»!! مما يعني أنهم ما زالوا يواصلون حماية هذا الرجل الذي من المفترض ألا يبقى خارج قفص الاتهام ولو للحظة واحدة، وعلى غرار ما حصل مع بعض جنرالات يوغوسلافيا الذين انتهوا إلى محكمة الجنايات الدولية.
وهكذا، وفي النهاية فإنه لا بد من التساؤل: هل الروس يا ترى ما زالوا يراهنون على بشار الأسد على أساس أنه يمثل مستقبل سوريا، أم أنهم قد وصفوا تقارير منظمة العفو الدولية بهذا الوصف الآنف الذكر؛ لأنهم ما زالوا يعيشون هواجس المذابح التي ارتكبوها في غروزني الشيشانية؟!
8:2 دقيقه
TT
متى سيدفع الأسد ثمن جرائمه وجرائم والده؟!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة