روث ماركوس
صحافية اميركيّة
TT

مرحبًا بكم في رئاسة ما وراء الحقيقة

مرحبًا بكم، واستعدوا لرئاسة ما وراء الحقيقة. قال جون آدامز (الرئيس الثاني للولايات المتحدة)، عام 1770، في دفاعه عن الجنود المتهمين بالتورط في «مذبحة بوسطن»: «الحقائق من الأمور العنيدة. وبغض النظر عن رغباتنا أو ميولنا أو ما تمليه علينا عواطفنا، ليس بإمكاننا تغيير الحقائق والأدلة».
أو هكذا كنا نظن، حتى انتخبنا لمنصب الرئيس رجلاً لا يأبه للحقيقة، ويقف بصلابة في وجه أي جهود للتحقق من صدق ما يطلقه من تصريحات.
الشهر الماضي، اختارت قواميس أكسفورد لفظ «ما وراء الحقيقة» باعتباره الكلمة الدولية للعام، وجاء ذلك لسبب وجيه. وقد طرحت قواميس أكسفورد تعريفًا لمصطلح «ما وراء الحقيقة»، جاء على النحو التالي: «يتعلق بـ، أو يشير، إلى ظروف يتضاءل خلالها تأثير الحقائق الموضوعية على صياغة الرأي العام عن محاولات التأثير على العاطفة والمعتقدات الشخصية».
وفي الحقيقة، إن ممارسة «ما وراء الحقيقة» - القائم على تأكيدات كاذبة تتراكم فوق أخرى كاذبة - كان له فضل في وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وكلما زادت الأكاذيب التي يتفوه بها، زادت المكافآت التي قدمها له الناخبون والذين رأوا أنه يقول الحقيقة كما هي دون تزيين.
وفي تقييم رائع للتغطية الصحافية للانتخابات، كتبت سوزان غلاسر، بمجلة «بوليتيكو»، تقول: «وحتى جهود تفحص الحقائق لم تفلح مع شخص قد يمثل أكبر مرشحي الرئاسة كذبًا في وقتنا المعاصر، فكلما اهتمت وسائل الإعلام بتفحص الحقائق التي يتفوه بها، تضاءل صدى الحقائق التي تكشفها تلك الوسائل».
من جانبها، شرحت هانا أرندت، عام 1967، أسس هذه الظاهرة على النحو التالي: «نظرًا لأن الكاذب يتمتع بحرية صياغة (الحقائق) على النحو الذي يوائم مكاسبه ومتعته، أو حتى مجرد توقعات جمهوره، فإن الاحتمال الأكبر أنه سيكون أكثر إقناعًا عمن يقول الحقيقة».
وعليه، فإنه ليس ثمة سبب يدعو للاعتقاد أن ترامب سيتحول فجأة إلى قول الحقيقة. وفي الواقع، تتجه جميع المؤشرات إلى العكس تمامًا، وكان أكثرها جلاءً التغريدة المفعمة بالأكاذيب حدّ التخمة التي أطلقها عبر «تويتر»، وزعم فيها أنه: «فزت بالأصوات الشعبية، إذا ما اقتطعت ملايين الأفراد الذين صوتوا على نحو غير قانوني».
الواضح أن ترامب ومعاونيه لا يشعرون بأي حرج حيال هذا النهج الواقع تحت مظلة «ما وراء الحقيقة»، وإنما يقرونه. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى المواقف الثلاثة التالية:
أولاً: أكد مدير حملة ترامب الانتخابية الذي يكاد يكون قد تعرض للفصل، كوري لواندوسكي، من جامعة هارفارد، أن إخفاق وسائل الإعلام في تغطيتها في أثناء الحملة الانتخابية لترامب ليس نتيجة ازدرائها له، وإنما تصديقها إياه.
ثانيًا: شدد المعلق العامل لدى شبكة «سي إن إن»، سكوتي نيل، الداعم لترامب، خلال مقابلة مع برنامج «ديان ريم شو»، على أن: «الناس الذين يقولون إن الحقائق هي حقائق فحسب (...) لا يوجد مثل هذا الأمر. للأسف، لم تعد هناك حقائق. وتعد التغريدة التي أطلقها ترامب حقيقة بالنسبة لفئة معينة من الجماهير».
وأخيرًا، شرح الرئيس المنتخب بنفسه، وهو الذي احتفل أمام حشد من مؤيديه بنجاحه في تقديم رشوة لشركة «كاريير» كي تبقي على بعض الوظائف داخل الولايات المتحدة، أنه اضطر للتحرك على هذا الصعيد بضغط من أحد أنصاره العاملين لدى «كاريير» الذي كان على درجة كافية من السذاجة جعلته يتعامل مع وعود ترامب بجدية.
بالتأكيد ترامب ليس أول الرؤساء الكاذبين، فقد سبق أن اشتهر رونالد ريغان بإصراره على تكرار قصص مبالغ فيها، وبدا أنه يخلط بين هوليوود والواقع. وسبق أن قال السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، لاري سبيكس: «إذا ما كررت القصة ذاتها خمس مرات تصبح حقيقة».
وقد ذكرتنا أرندت، منذ نصف قرن مضى، بالتوترات الكامنة بين قول الحقيقة والنفوذ السياسي، بقولها: «ما من أحد لديه أدنى شك في أن ثمة عدم تناغم بين قول الحقيقة والسياسة، ولا أحد قط، في حدود علمي، سبق أن اعتبر الصدق واحدة من الفضائل السياسية».
إلا أننا اليوم نقف أمام رئيس لا يأبه للحقائق، في ظل بيئة إعلامية تهيمن عليها الأهواء الحزبية، وتلوثها الأخبار الزائفة. ويشكل هذا التطور تحديًا ملحًا، بالنسبة للصحافة والديمقراطية.
ويكمن التحدي أمام الصحافي في ضرورة ألا ييأس، أو يسأم من تفنيده الأكاذيب، بينما يتمثل التحدي أمام المواطن في ضرورة أن يبقى حذرًا منتبهًا حيال إغراءات سياسات ما وراء الحقيقة، وأن يضع نصب عينيه دومًا مقولة رئيسنا الثاني، رغم كل مساعي رئيسنا الـ45 الحثيثة لإثبات أنها نصيحة عفى عليها الدهر.
* خدمة «واشنطن بوست»