عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الرهان على العلم

المجد للعلماء والمبدعين الذين يفنون أعمارهم في شتى حقول المعرفة لخدمة الإنسان وتطور العالم وتنامي فهمه، من ملكوت المجرات الفضائية وقوانينها الصارمة إلى مطاردة الفيروسات الأكثر دقة وتطورًا. إنها رحلة الإنسان الرائعة ورحلة العلم الأروع، ورحلة بناء التجانس بين الرحلتين.
ولي ولي العهد السعودي، صاحب «رؤية 2030» و«مشروع التحول الوطني 2020»، ينتمي لهذا السياق الذي يجمع العلم بالوعي، وينشد مستقبلاً مشرقًا لوطنه ومواطنيه ليرتقوا في سلم العلم والحضارة، وهو التقى في زيارته التاريخية للولايات المتحدة الأميركية بمعظم القيادات السياسية، وعلى رأسها الرئيس الأميركي باراك أوباما، وعدد من وزرائه، وقد حرص على التواصل مع كثير من مراكز التفكير والإعلام وكبار المستثمرين وشركات التقنيات الحديثة وروَّاد الابتكار، ولم ينس المبدعين من طلاب المملكة العربية السعودية المبتعثين والمبدعين، الذين يعدون بالآلاف، فالتقى بهم وحل كثيرًا من مشكلاتهم ليزدادوا إبداعًا وإشراقًا، لا لمستقبل السعودية فحسب بل لمستقبل العالم.
قبل بضعة أشهر تمَّ في أميركا اكتشاف موجات الجاذبية التي تنبأ بها ألبرت آينشتاين قبل مائة عام، ذلك العالم الاستثنائي، الذي قادت نظرياته العلم لأكثر من قرن من الزمان، ولم تزل محل بحث ودراسة وتوثيق واختبار، ولم ينتهِ به مطاف العلم حتى كان يبحث كغيره من العلماء والمبدعين عن نظرية كل شيء، أو النظرية الواحدة التي تفسر كل شيء، ومات ولم يصل إليها، ولكنه قدم الكثير لأجلها، ومثله فعل العالم البريطاني ستيفن هايكنغ الذي اختص بالثقوب السوداء، وبالفلك والفيزياء، وقدم نظرياته بشتى صنوف العرض، أبحاثًا ودراسات، كتابًا وأفلامًا.
طاف الأمير الشاب محمد بن سلمان أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، وبعث وفوده للكثير من الولايات، وهو يفتش عن سر العلم والتقدم والتحضر، وهو يعرض رؤيته لمستقبل بلاده، ويستقطب الشركاء ويحث المستثمرين ويقدم الفرص، ويحمل مشعلاً يفتش به عن الإنسان المبدع القادر على دعم بلاده ومساعدتها بخبرته وتجربته أو بعلمه ومعرفته أو بإبداعه وابتكاره، أو بأي طريقة تجعل المستحيل الذي يراه ممكنًا جزءًا من خطة وقطعة من مشروع وقبسًا من ضياء.
كطفل مندهش، تساءل نيوتن لماذا يسقط التفاح على الأرض ولا يرتمي لأعلى أو لأي اتجاه آخر؟ فخرج بنظرية الجاذبية، وبفكر مندهش تساءل داروين كيف تتطور الكائنات؟ وقدم نظريته في «أصل الأنواع».
لقد مرت التجربة الغربية في تطوير حضارتها بعوائق جمة ومعيقات كبرى، ولكنها استطاعت تجاوزها بوعي استثنائي، بناه العلم وعززته المعرفة ونشرته الثقافة، شارك فيه العلماء المتخصصون والساسة العارفون، وكان لتجارب الأمم والشعوب، والدول والقادة، نماذج مبهرة في طول العالم وعرضه، من اليابان إلى سنغافورة ومن ماليزيا إلى الصين، وغيرها الكثير، وقد كان حتمًا على الكل أن يجدوا طريقهم الخاص لإعادة بناء الحاضر وصناعة المستقبل.
ثمة نموذج سعودي جديد يتم بناؤه بإحكام، ليقدم نموذجًا حضاريًا مستحقًا، وهو قيد البناء والتشييد، مع المراجعة والتجديد، وهو نموذج يحظى بدعم العاهل السعودي بنفسه، ويحقق رؤاه ويطبق أفكاره ويجلي حكمته، ويقف معه عضيده وولي عهده بكل قوة وحزم، وينفذه ويتابعه ولي ولي العهد بخطط شاملة ورؤى متقدمة.
إن لأي علم طرائق مختلفة للتطور، من الأعلى للأسفل، ومن الأسفل للأعلى، من الكبير إلى الصغير، ومن الصغير إلى الكبير، من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى العام، من القمة إلى القاعدة ومن القاعدة إلى القمة، من المادة إلى الكائنات، ومن الفلك إلى الفيروسات.
يكاد التطور أن يكون المعيار الوحيد الثابت، والتطور معنى يحمل قيمة الانتقال إلى الأفضل، ولكنه يحمل قيمة التغيير، التي قد تتجه إلى الأسوأ، أو الأقل تفضيلاً.
«بما أن الماضي لم يعد ينير المستقبل، فإن عقل الإنسان أمسى تائهًا في الظلام» هكذا تحدث توكوفيل مرة، وفي بناء النماذج الحضارية الجديدة، فإن السعودية يجب أن تجد طريقًا خاصًا بها، وأن تضع مبضع الجراح على تقرحات الثقافة، ومع ازدياد انتشار التطرف والتشدد حول العالم وتعدد عمليات الإرهاب البشعة والموغلة في التوحش من أورلاندو في أميركا إلى قتل إرهابيين لوالدهما ووالدتهما في الرياض وقتل إرهابي لشقيقه في الكويت، فإن الواجب هو البحث عن حلول جديدة بعد فشل بعض المنظومات الدينية في مواجهة هذه البشاعة وهذا التوحش.
إن «الخبرة» تحيل إلى الماضي والمعرفة التاريخية، و«التجربة» تحيل إلى الممارسة، ولكن «المهارة» تجمع الاثنين معًا وتضيف إليهما الكثير، كما أن العلوم بأصنافها وتصنيفاتها مجرد مثال: النظريات والحضارات، الأمم والشعوب، الدول والتحالفات، الإمكانيات والقدرات كلها رهان العاقل وحادي الفاعل وقدوة المجد المجتهد.
إحدى محاولات إفشال جهود الناجحين وإبداعاتهم هي التقليل من شأنهم وشأن طروحاتهم إن على طريقة التقليل من الجدوى أو تعمد التشتيت والتشويه وإن عبر سبيل المزايدة، وما يهم في هذا السياق هو أن باحثين كثيرين قد تم تحجيمهم في أطروحات صغيرة من بنيات أفكارهم التي كانت محاولات متقدمة للفهم والتحليل والرؤية.
لقد تمت في الإطار الاستراتيجي - على سبيل المثال - محاولات للتشكيك في طروحات مفكر مثل هنري كيسنجر الذي خدم بلاده بإخلاص، أو التقليل من شأن زبغينيو بريجنسكي، وهي في عالمنا العربي بلا حصر ولا عد، ويصح في هذا ما تعرض له برنارد لويس وصموئيل هنتغتون وفؤاد عجمي وفوكوياما، وغيرهم الكثير، لصالح نظريات مؤامرة تافهة، وأطروحات مؤدلجة حمقاء.
شمولية الرؤية السعودية ومعها مشروع التحول الوطني والمشاريع اللاحقة تكتنز كثيرًا من المعرفة والحكمة، وهو أمر مشاع في العالم لمبتغيه، وقد قال تشوانغ تسي مرة: «الذكي لا يسره إلا التفكير العميق المتعدد الأساليب»، كما جاء في كتاب كونفوشيوس «عدم تصحيح الخطأ، هو خطأ حقيقي»، فالتفكير الذكي والعميق هو الذي يبني ويشكل مرتكزًا للرؤية والتخطيط والعمل، وأي عمل لا تتم مراجعته وتصحيح أخطائه يذبل ويفشل، وقد سمعت مع غيري مرة ولي ولي العهد، وهو يؤكد أنه يعمل والفرق التي معه بجد واجتهاد، وقال نحن نخطئ، ولكن لدينا الشجاعة دائمًا لتصحيح الخطأ.
أخيرًا، جاء في كتاب كونفوشيوس «يتمتع الشباب بقدرات كبرى على تحقيق المنجزات»، وأكد أن «عدم الصبر في الأمور الطفيفة يجلب الدمار للخطط الشاملة» والنجاح دائمًا هو نتيجة الانحياز للعلم والمعرفة والتطوير والتجديد.
[email protected]