سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

من «غرد» خارج السرب: إردوغان أم «تويتر»؟

حرب رجب طيب إردوغان على «تويتر» فك لغزها مئات الآلاف من الأتراك الذين احتشدوا في نهاية الأسبوع في أكبر مهرجان حزبي تشهده تركيا، حيث كرر إردوغان ما قاله عشرات المرات هذا الأسبوع «إذا لم تحترم (تويتر) القوانين وقرارات المحاكم التركية، فسنأخذ كافة الإجراءات التي نراها ضرورية لإلزامها بذلك. تركيا ليست جمهورية موز وهي ليست جمهورية أناناس أبدا».
معركة إردوغان مع «تويتر» التي وصفها الكثيرون بالحبة التي حولها إلى قبة وبالخطأ المميت الذي ارتكبه ابن «قاسم باشا»، عندما «أشعل اللحاف علشان برغوتة» بدأت تتوضح تفاصيلها أكثر فأكثر بعدما تبدد ضباب الأزمة وانقشعت الصورة وتوحد خبراء الإعلام في تركيا حول ضرورة فتح الأبواب على مصارعها أمام خدمة تواصل اجتماعي من هذا النوع، لكنهم اتفقوا مع رئيس الوزراء التركي أيضا حول ضرورة تذكيرها وإلزامها بواجباتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية، وعدم المساهمة في التغاضي عن إهانة أو تحقير أو تجريح الأشخاص أو اختراق حرماتهم.
الذين استلوا سيوفهم وأقلامهم لمقاتلة وإسقاط حكومة العدالة والتنمية في الداخل والخارج باسم الذود عن الحريات في تركيا وحق الاطلاع، اختلط عليهم الأمر عندما توضح المشهد أكثر فأكثر.
حكومة العدالة والتنمية هي التي فتحت الأبواب على وسعها أمام وسائل التواصل الاجتماعي، ووزعت آلاف أجهزة الكومبيوتر على الطلاب في المدارس لتشجيعهم على الاستفادة من التطور التكنولوجي في العالم، ولن تضحي بكل ما بذلته حتى الآن بارتكاب الخطأ المميت هذا. الرسالة التركية باختصار كانت: أليس من حق تركيا أن ترد على فبركات وأشرطة مزيفة وتطاول على حرمات واختراق جدران للتجسس على صناع القرار، وتسريب أسرار الدولة على هذا النحو؟
حكومة العدالة والتنمية في الحكم منذ 12 عاما، وهناك أخطاء ارتكبت حتما في الإدارة وتحديد الخيارات والمواقف، وهناك تهم توجه لكبار السياسيين في مسائل لا يمكن لفلفتها مثل الاختلاس والتزوير والفساد والرشاوى. لكن الحشود التي تملأ الميادين وساحات الانتخابات تقول شيئا آخر: لن نتنكر لما قدمته حكومة إردوغان للبلاد، حتى ولو كان «تويتر» وأخواته بيت القصيد.
«تويتر» آخر ابتكارات التواصل الاجتماعي المعولم دخل في أزمة مع «المستبد» و«المتسلط» و«قامع الحريات» إردوغان. لكن حكومة العدالة تذكره غير عابئة بكل هذه الاتهامات بالتزامات مالية وضريبية وتنظيمية وقرارات محاكم لا مفر من تنفيذها، إذا ما كان يريد التحرك في الأسواق التركية التي تقدم له ربحا ماليا يتجاوز الأربعمائة مليون دولار سنويا.
بعد ساعات فقط على قرار حظر استخدام الموقع تحركت الشركة لإرسال وفدها القانوني والإداري إلى أنقرة، للتباحث مع رئاسة شؤون الاتصالات والتكنولوجيا التركية وإبداء استعدادها لتنفيذ قرارات المحاكم، وفتح مكتب لها في تركيا ثم جاءت الخطوات العملية التي تساهم في تخفيف التوتر والاحتقان.
«تويتر» حاولت أن تلعب ورقة «الأطرش بالزفة» واستغراب ما جرى وتحريك الشارع التركي للدفاع عن فرصه في التواصل الحر، وتبادل المعلومات وتقاسمها وهي سجلت بعض النقاط لصالحها بعد ساعات على انتشار النبأ، عندما ثار 12 مليون تركي يستفيدون من هذه الخدمة وعلى رأسهم الرئيس التركي عبد الله غل، الذي انتقد في حسابه على الموقع مسألة حجبه آملا «ألا يستمر هذا الوضع طويلا». لكن تصلب إردوغان وتشدده في قضية «حقنا نحن أيضا أن تحترمنا (تويتر) وتعاملنا بالمثل من خلال عقود واتفاقيات ملزمة توقعها معنا» جعله يسقط مرة أخرى واقفا على قدميه، بعد كل التطبيل والتزمير لإنزال الضربة الموجعة به هذه المرة.
ربما الذي أغضب إردوغان هو أنباء واردة من لندن تقول: إن الحكومة البريطانية وقعت في 13 الشهر الحالي، اتفاقية مع «غوغل» تعطي الدولة حق التدخل الفوري عند تهديد الأمن القومي للبلاد، عبر نشر أي معلومة أو شريط أمني يتم تسريبه. «لماذا نعم للأمن القومي، ولا للأمن الفردي أو الشخصي. لماذا نعم لبريطانيا وللولايات المتحدة، ولا لتركيا ولمصر وأوكرانيا؟».
البعض داخل تركيا وخارجها يقول: إن رئيس الحكومة التركية سيدفع مساء الأحد المقبل، عندما تفتح صناديق الاقتراع، ثمن التحرش بـ«تويتر» على هذا النحو للتغطية على ملفات وتهم تتحدث عن الفساد والرشاوى داخل حزبه، وعن اقتراب موعد رحيل إردوغان، لكن مليوني مواطن تركي ضاقت بهم أكبر ساحات إسطنبول بعد ظهر الأحد المنصرم، هتفوا مطولا لإجراءاته وبينها الحرب على «تويتر»، وقالوا شيئا آخر على ما يبدو.
وزير الصناعة والعلوم والتكنولوجيا التركي يقول: لو استمعوا إلى ما نقوله منذ البداية لما كانت الأمور تطورت وتعقدت بهذا الشكل. القضية كلها قانونية تقنية إدارية، لكن «تويتر» أرادت تحويلها إلى أزمة حريات محاولة لعب ورقة الشباب الأتراك. إردوغان لا يدفع في أزمة «تويتر» ثمن تحالفه السري مع إيران كما ردد البعض، ولا يسقط بالضربة القاضية بسبب تطاوله على الشيعة في العالم كما يقول البعض الآخر، وهو لن يعطي المعارضة الفرصة التي تريدها للانقضاض وسط كل هذا التوتر والاصطفاف السياسي والشعبي بالوقوع في فخ خسارة آلاف الأصوات بتفجير أزمة هامشية، يمكن تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات المحلية.
«الضربة الوقائية» التي وجهها إردوغان ردا على محاولات الاغتيال المعنوي الممنهج، وإطلاق تغريدات تشهر وتفبرك وتزيف على مزاجها، جاءت مدروسة مخططا لها وأعدت بدقة كما فهمنا، والدليل هو أن الملايين في الميادين تحلقوا حول يافطة نعم لحرية «تويتر» في تركيا، لكن نعم لاحترام حريات الأتراك في تغريدات «تويتر» أيضا.