سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

سيف ديموقليس الانتخابي

للمرة الأولى في انتخابات لبنانية، نسمع كلمات ومصطلحات تتردد، لم تكن في وارد المرشحين. فجأة صارت «شفافية» من المفردات المحببة، و«البرنامج الانتخابي» مع عرضه وشرحه والنقاش حوله من مستلزمات البرامج التلفزيونية. المحاسبة على مصادر «التمويل» لم تكن شأنًا مطروحًا أيضًا، في ظل التسليم بأن الأحزاب لها جهات «شبحية» ترعاها وتهدهدها، وعلى المواطن أن يتفرج ويسكت. ها هي لائحة «بيروت مدينتي» للمجتمع المدني، المرشحة عن بيروت، تعرض على موقعها الإلكتروني ميزانيتها والمبالغ التي جمعتها وكيفية صرفها، وتستجر «لائحة البيارتة» لأحزاب السلطة إلى القول: إنها هي أيضًا، لم تصرف أموالا كثيرة، وأنها لجأت، بدورها، إلى التبرعات. صدق أو لا تصدق، لكن البذخ الانتخابي صار معيبًا، على غير عادة، والرحمة على أيام كانت تتبجح فيها الأحزاب بصرف الملايين على ناخبيها، وتحول الحيطان إلى مكان مستباح لصور مرشحيها دون أن يرف لها جفن، أو تجد من يؤنبها.
ومن الجديد، أن ترى مرشحة بيروتية من لائحة معارضة هي «مواطنون ومواطنات في دولة»، تعد الناس أنها في حال وصلت ستسجل لهم جلسات المجلس البلدي، وتطلعهم على المشاريع التي تم الاقتراع عليها، وكيفية التصويت وخلفياته. وسعى كثيرون للتذكير بالقوانين وحقوق المواطنين، وصلاحيات المجالس البلدية التي يفترض أن يستفاد منها، بما يخدم الأهالي، وينهض بحياتهم.
هذا لا يعني أن لبنان تحول في لمحة بصر إلى دولة تنافس السويد في ديمقراطيتها، ولا يشي بأن اللوائح المعارضة ستكسب اللعبة، لكن المجتمع المدني الغاضب من الفساد والظلم، نجح فعلاً - حتى لو خسرت لوائحه - في فرض شروطه وأساليب عمله على الأحزاب الممسكة، تاريخيًا، بتلابيب القرار والقابضة على مفاصل الدولة.
حتى نهاية الشهر، لا صوت يعلو على ضجيج الانتخابات في لبنان. فالقضية ليست اقتراعًا لاختيار مجالس بلدية محلية وبعض المخاتير، وإنما قياس أحجام لأحزاب متجذرة وعتية، ومعرفة أوزان، واختبار أمزجة الناس التي تغيرت. وهي في المقابل، بالنسبة إلى المجتمع المدني، الذي يقارع للمرة الأولى بلوائح، ويقدم نفسه بديلا فعليا، فرصة لا تعوض، لإثبات وجوده، وإرغام الجهة الأخرى على اعتباره خصمًا عتيًا قادرًا على الفوز.
ليس صحيحًا على الإطلاق كلام النائب علي خريس «أن الاستحقاق الانتخابي البلدي والاختياري هو محطة من أجل الجمع والمودة والمحبة والتآلف والإنماء»، لا عند حركة أمل التي ينتمي إليها، ولا عند غيرها، وإلا لكانت الأحزاب على أطيافها، تركت للعائلات والقوى المحلية في كل مدينة وقرية فرصة انتخاب ممثليها، بدل أن تشمر عن سواعدها، وتكشر عن أنيابها، وتحاول أن تبقى كل كرسي ومركز طوع يدها. فالسياسة في لبنان، لم تترك نقابة أو اتحادًا أو تجمعًا إلا واستثمرته لمآربها. ووصلت اللوثة إلى الجامعات حتى أصبح العمل الطلابي لا يقل انقسامًا وطائفية عن سواه. إضافة إلى أن الانتخابات البلدية، بنتائجها، ستشكل جس نبض، لانتخابات نيابية، بات التملص من إجرائها محرجًا إن لم يكن مستحيلاً.
ما قبل الربيع العربي الدامي ليس كما بعده. وخلال ست سنوات، كبر جيل يبدو أنه مستشرس لانتزاع السلطة من فم الحيتان والديناصورات، ويجيد فن صياغة الصور الجذابة، والإعلانات البراقة التي تغري بالجمال والحداثة. الأعداد لا تزال قليلة، لكن البداية واعدة. من ميزات الانتخابات هذه المرة فقر حال الأحزاب السياسية وشح المال. الانهيارات الاقتصادية ليست سلبية بالمطلق. فبعد أن أفقر الزعماء الناخبين جاء دورهم ونضبت جيوبهم. فضيلة، قلصت الرشاوى إلى حدها الأدني، رغم أنها لا تزال مرضًا يستحق أن يكافح.
«رب ضارة نافعة» وتصنيف لبنان، على رأس هرم دول المنطقة في الفساد، يصب في خانة تقوية حجة لوائح المجتمع المدني المعارض التي تحتاج دعم نسمة، فما بالك بتقرير منظمة الشفافية الدولية.
أزمة النفايات كان لها وزنها في تحفيز الناس وإغضابهم، ودفعهم إلى الترشح والتصدي. الفضائح المتوالية، عن اختلاسات ومخالفات، وصفقات، لن تكون آخرها فضيحة الإنترنت، وبطء نتائج التحقيقات، إن لم يكن تمييع القضايا والمراهنة على ضعف الذاكرة، كلها أمور تزيد من نسبة المستشيطين، لكنها قد لا تدفعهم بعد إلى التخلي عن زعمائهم التقليديين، وقد تجعلهم، في أحسن الأحوال، يلزمون بيوتهم، ويقاطعون اعتراضًا واحتجاجًا.
فأهل بيروت يخشون أن يتزحزح تيار المستقبل عن مواقعه، ويبقى «حزب الله» في بلدياته. وجمهور الحزب لا بد أنه يخشى الأمر نفسه. لذلك ومع افتراق المصالح واختلاف المشارب، ورغم رغبة الناس الجامحة في رؤية مجالس بلدية حيادية، أقل تسييسًا، وأكثر التزامًا بمشاريع إنمائية ومعيشية، بعيدا عن تبادل المصالح والصفقات، سيبقون لبنان في خانة المراوحة.
كل التعويل في هذه الانتخابات هو على إطلاق الأصوات الصامتة، وتحريك تلك الغالبية الساحقة التي أصابها اليأس وأضناها الوجع، وفقدت الأمل في أي تغيير. غالبية تصل إلى 80 في المائة من اللبنانيين، لم يقترعوا في المرة الفائتة، وفضلوا الصمت، وقد يفعلون الشيء نفسه هذه المرة.
أيا تكن نتائج الانتخابات البلدية، وهي على أي حال، من الآن مائلة لصالح من هم في الحكم، لأن التخلي عنهم لا يزال يخيف جمهورهم، فإن المياه الراكدة قد وجدت من يحركها بقوة، ويبقى التغيير الجذري أمرا آخر، لكنه آتٍ لا محالة. فالانتخابات البلدية، على ضآلة شأنها، هي الباب الأنسب للنفاذ إلى ما هو أرحب.