كلا، ليس خصوصية الأفراد، فذلك أمر حصل منذ زمن بعيد، ويكاد يكون محل توافق بين الجميع، إنما الخلاف قائم بشأن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه قوانين شرعنته. المقصود هنا هو سقوط جدران حق أي مجتمع في رفض إقدام آخرين على تمحيص أعراف وثقافات موروثة عبر أزمان، وتعطيه خصوصية تشكل شخصيته الجمعية وتميزه عن غيره. ثم إن الرفض يأخذ شكل الغضب، إذا أثير التساؤل من قِبل الغير عما هو جائز، أو مقبول، وما هو مرفوض، وفق مفاهيم القرن الأول بعد العشرين، وما وجب أن يخضع لبعض تطوير، أو إعادة نظر بوسائل التطبيق، بما يتلاءم مع متطلبات عصر جديد.
انهيار أبواب إغلاق أي مجتمع بإحكام على ما يخصه من مفاهيم صار واقعًا، ليس ثمة مفرّ من التعامل معه. بالمقابل، يبدو إصرار البعض على إغماض أعين الجميع، وكف فضول البشر أجمعين، نوعًا من عناد الإبحار بالمراكب عكس مسار الرياح، حتى لو بدا المصير هو الغرق في قاع بحر كوكب يتغير كلمح البرق.
بالطبع، ليس مطلوبًا من أحد أن ينسلخ عن جلد تاريخ يعتز بالانتساب إليه، أو أن يخلع ثوب جينات وُلِد بها، ذلك مُحال. لكن نشوء المجتمعات وتطورها، أو تجمّدها، مرتبط، كما هو واضح للكل، بتطور واقع حال ناسها، أو بقاء فهمهم لما يجري حولهم بمشارق الأرض ومغاربها، يدور فقط في فلك ما صلُح لأزمان أمم خلت من قبلهم. وإذا كان هكذا تصوّر هو محط اجتهاد كل مصلح، بل مرتكز وجوهر مضمون معظم من بشّر بجديد، ومن ثمّ موضع قبول أغلب من يعقلون، منذ غابر القرون، فكيف يجوز أن يستعصي الأخذ به في زمان فضاء معلوماتي، لم يعد يسمح بحجب أي معلومة، أو تفاصيل حدث ما، عن أي أحد، سواء طلبها، أو أنها أتته من حيث توقع إبلاغه بها، بالصوت والصورة، إضافة لبيانات توضح، ورسوم جغرافية تشرح، تنهمر كلها خلال ساعات عبر أكثر من جهاز إلكتروني، منها المحمول في الجيب، ومنها المثبّت على مكتب، في سيارة، قطار، طائرة، باخرة، أو بالمقهى والمطعم؟
قبل أيام، كنت بقريتي في أطراف لندن، أستمع وأشاهد تفاصيل خبر حريق شبّ بمعبد في ولاية بجنوب الهند. لفتني اهتمام خبراء ألعاب نارية هنا بمعرفة أدق الأسباب، التي سبّبت اندلاع حريق هناك، أدى إلى مقتل مائة شخص فقط في بلاد يتجاوز عدد أنفسها المليار و252 مليونا. بيد أنني ذكّرت نفسي بسرعة، أن أمر إشباع الحاجة إلى المعلومة لم يعد يرتبط بأعداد ضحايا كارثة ما، حيثما تقع، قلّ أو ارتفع، ولا هو مقتصر على مجتمع محدد بسبب المُعتقد أو العنصر. كلا، إنه النَهَم لمعرفة التفاصيل، الذي أتى به زمان فضاء إلكتروني أسقط حواجز ما يعرف بخصوصية الأعراف، أو تميّز الهوية، ومنح الثقافات حصانة تعفيها من المساءلة والتمحيص. صار من حق فرد بإحدى قرى الصين النائية، مثلاً، أن يفهم طبائع أهل قرية تقع في صحارى تبعد عنه مئات آلاف الأميال، وبالمقابل يُصّر قروي مثله بأقصى أطراف المعمورة، على مساءلة حكام بلده عما يجري لأهل التبت، حتى لو لم يسمع عنهم أبدا من قبل.
في هكذا عالم، يستحيل إخفاء أي تفاصيل، أو الإبقاء على حصانة أي مجتمع ضد تمحيص أدق خصوصياته. وإذا كانت «أوراق بنما» جرعة جديدة تلحق بما سبقها من «وثائق ويكيليكس»، وغيرها، وتضاف إلى ما سيتبعها من تسريبات تكشف المستور من أسرار أو ثروات أفراد، فإن الأهم هو الاقتناع بأن العالم كله مكشوف الآن أمام كل من أراد اقتحام أدق تفاصيل موروث ثقافات الشعوب وعاداتها، بصرف النظر عن ردود الأفعال، والأفضل في هذا المضمار هو الاحتكام للغة العقل أولا وأخيرا، آخذين بعين الاعتبار منطق تغيّر الأزمان.
7:52 دقيقه
TT
نهاية زمن الخصوصية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة