برغم كل شيء، فإن القضية الاقتصادية المؤسسة لإعفاء اليونان من ديونها، هي قضية واضحة ومباشرة: من دون الإغاثة الاقتصادية في إطار برنامج شامل من الإصلاح، فسوف تكافح اليونان كثيرا من أجل النمو، وسوف تستمر معدلات البطالة في الارتفاع، وسوف تستمر الاضطرابات في صياغة التحديات الدورية على أداء منطقة اليورو اقتصاديا.
ولكن حسابات التفاضل والتكامل السياسية باتت أصعب بكثير، برغم كل شيء. حتى النافذة التي فتحت عبر أزمة اللاجئين في أوروبا فشلت حتى الآن في توفير الحوافز الكافية من أجل التغيير. وإذا ما استمر هذا الوضع، يمكن أن ينتهي الأمر باليونان إلى أن تكون أكبر تهديد ممكن على سلامة وأداء كل من منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بأسره.
لماذا ينبغي أن نمنح المدين المتهرب من ديونه الإعفاء المالي في حين يجاهد المدينون الآخرون بكل اجتهاد لسداد ديونهم؟ وماذا عن الدائنين الذين اجتهدوا كثيرا للحصول على الأموال التي أقرضوها، لماذا نتحول إلى معاقبتهم بدلا من مكافأتهم؟ ثم، ألا يشجع الإعفاء من الديون المدينين الآخرين على أن يكونوا أقل اجتهادا في سداد ديونهم، مما قد يقوض من التدفق الإجمالي للائتمان الذي يدعم النمو الاقتصادي ويوسع من مجال فرص الرفاهية والرخاء؟
تلك من بين التساؤلات الاقتصادية المشروعة. ومع مرور الوقت، فإن مثل تلك الاعتبارات جعلت حق الإعفاء من الديون من الأمور نادرة الحدوث، من حيث خضوعه لمفاوضات مطولة أو الاعتماد على نتائج أحداث استثنائية أخرى. ولكن التحليل الاقتصادي يشير كذلك إلى أن هناك حالات قليلة، يكون فيها حق الإعفاء من الديون هو في الواقع من أفضل الخيارات عندما يكون «أفضل الحلول الأولى» غير متاح في الوقت الراهن.
وإليكم الحجة الاقتصادية في ذلك:
تؤدي المديونيات العالية إلى ما هو أكثر من السحق المباشر لجهود إنعاش اقتصاد المدين. كما أنها تؤدي كذلك إلى منع دخول رؤوس الأموال الجديدة؛ حيث يشعر المستثمرون الجدد بالقلق من تلوث استثماراتهم، إثر المسؤوليات المالية المفرطة الموجودة بالفعل. ومن دون الأكسجين الذي تشتد الحاجة إليه والمقدم من تدفقات رأس المال، فسوف يعاني المدين بأكثر من ذلك، مما يجعل النمو أكثر استحالة على التحقق ويجعل فخ الديون أكثر عمقا.
تشتمل الأمثلة التاريخية العديد من الدروس الصعبة في «العقد الضائع» من أميركا اللاتينية خلال ثمانينات القرن الماضي. وخلال هذه الحلقة المحزنة من التاريخ، كافحت العديد من الدول للتغلب على سحق أعباء الديون، وانتهى بها الأمر في هوة الركود الاقتصادي على المدى البعيد، وارتفاع مستويات الفقر لمعدلات غير مسبوقة. وكانت الإغاثة الشاملة للديون، التي جاءت مع نهاية العقد المذكور، وبداية عقد التسعينات اللاحق، متأخرة للغاية لتجنب البؤس، وخصوصا بالنسبة إلى المواطنين الفقراء. كما أن هناك أيضا مثال الدول الفقيرة في أفريقيا، التي استفادت من مبادرة الديون العالمية التعاونية للبلدان شديدة الفقر خلال منتصف عقد التسعينات، التي سمحت بحدوث ارتفاع ملحوظ في النمو الاقتصادي، والاستثمارات، وتخفيف وطأة الفقر المدقع على السكان.
يتفق معظم خبراء الاقتصاد على أن اليونان لن تكون قادرة على النمو دون الإعفاء من ديونها. وهو من المكونات الضرورية، إن لم تكن الكافية، لأية مقاربة تتعلق باستعادة الدولة لمسار النمو الاقتصادي المستدام، والتقليل من مستويات البطالة المثيرة للقلق الشديد، وتجنب جيل كامل من الشباب العاطل عن العمل.
وحتى مع كون قضية الديون اليونانية قضية مباشرة وواضحة من الناحية الاقتصادية، إلا أنها قضية مفعمة بالتعقيدات السياسية الكثيرة.
وذلك في المقام الأول يرجع إلى القرارات المتخذة في برامج الإنقاذ المالية السابقة بالنسبة إلى اليونان، فإن الجزء الأكبر من ديون البلاد في الوقت الحالي تعود إلى دول أوروبية أخرى ومؤسساتها الرسمية الحاكمة. وبناء عليه، فإن قرار الإعفاء من تلك الديون يمكن أن ينشأ فقط من رحم عملية سياسية تتضمن البرلمانات الوطنية بتلك الدول، بما في ذلك البرلمان الألماني، والفنلندي، والهولندي، والتي تميل إلى النفور حيال ذكر أية تخفيف للشروط المفروضة على الديون السابقة.
ظن الكثيرون أن أزمة اللاجئين سوف تسهل من المصادقة السياسية على هذا القرار الضروري اقتصاديا العسير سياسيا. وبعد كل شيء، كانت اليونان في طليعة مواجهة تلك الأزمة، من حيث استضافة، تحت ظروف قاسية للغاية، مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين الذين يسعون إلى الاستقرار في مكان آخر داخل القارة الأوروبية.
ولكن هذه النافذة أثبتت الأيام صعوبتها؛ نظرا إلى الانقسامات العميقة بين ربوع الاتحاد الأوروبي، التي كشفت عنها أزمة اللاجئين ببساطة. وعلاوة على ما تقدم، وبوصفها زعيمة هذه السياسة إلى جانب العديد من القضايا الأوروبية الأخرى، وجدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن قراراتها الشجاعة حيال أزمة اللاجئين تواجه في الوقت الراهن معارضة سياسية داخلية متصاعدة.
أدت تسريبات وثائق ويكيليس لمحاضر المداولات الداخلية في صندوق النقد الدولي، وهو من أهم مصادر توفير التمويل والمساعدات الفنية إلى اليونان، إلى زيادة في تعقيد المسائل السياسية الخاصة بالإعفاء من الديون. وتشير الوثائق إلى طريقة تفكير كبار خبراء الصندوق في أثناء محاولتهم توقع مدى تعقيد سياسة الاتحاد الأوروبي خلال الشهور القليلة المقبلة، ومدى تأثير ذلك على استراتيجية الحصول على قرار الإعفاء من الديون لأجل اليونان، طالما أنهم اعتبروا أن ذلك أمرا ضروريا وصاروا يقترحون الآن أن يكون ذلك من الشروط المسبقة لطلب المزيد من المساعدات المالية من دول الاتحاد.
تبين أنه بداية هذا الصيف قد تكون أكثر جلبا للتحديات لكل من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على حد سواء. وبحلول ذلك الوقت، يمكن أن تنفذ الأموال التي بحوزة اليونان واللازمة لإدارة عجلة الاقتصاد وتغطية مدفوعات خدمة الديون المستحقة. كما ستصوت المملكة المتحدة خلال الصيف الحالي على قرار بقائها أو مغادرتها لعضوية الاتحاد الأوروبي. ومن شأن أوروبا أن تكتشف في المرحلة القادمة، ولكن بالطريقة العسيرة، أن الاتفاق الإقليمي المبرم مؤخرا حول تدفقات اللاجئين يصعب في واقع الأمر تنفيذه.
يجدر بأوروبا أن تبدأ في اتخاذ الإجراءات حاليا لتجنب التضارب المحتمل في المشاكل خلال هذا الصيف، التي إذا ما أديرت بشكل شيء لن تؤدي فقط إلى اختبار قرارات المنطقة وقدرات حل المشكلات فيها، بل مصداقيتها السياسية برمتها. وفي هذا السياق، فإن القرار الصعب اتخاذه بشدة بشأن إعفاء اليونان من ديونها سوف يستند إلى ضرورة براغماتية تعزز من مبررات اليونان الاقتصادية.
إن القرار الوحيد الذي يقع الآن في أيدي الحكومات والبرلمانات الأوروبية، التي - على الرغم من أنها تواجه المزيد من التحديات من جانب الحركات القويمة المناهضة للمؤسسية - لا تزال تخضع لسيطرة أولئك الذين يعتقدون في المشروع التاريخي في اتحاد أوروبي أكثر قوة ووثاقة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
7:44 دقيقه
TT
جدلية «ويكيليكس» تعزز طلب اليونان لإعفائها من ديونها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة