فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

جلبة خطابهم.. إذ شجّعت حظّ «اليمين»

يعبّر طارق رمضان في القنوات الأوروبية باستمرار عن آرائه حول العلاقة بين المسلمين والغرب. أفكاره التي يطرحها تأخذ مسارًا شعبيًا بمعظمها، إذ يخاطب المسلمين بما يرغبون سماعه، لا بما يصدمهم، ويجب عليهم سماعه والتغيّر على أساسه. رمضان مغرم بالنتائج القطعية التي تكاد تكون كارثية من مثل إحالة نشوء تنظيم داعش مسؤولية ودعمًا على الغرب! طارق حفيد حسن البنا يعترف أن تسعين في المائة من وقته يقضيها للرد على وسائل الإعلام الغربية، بوصفها تفتري على الإسلام والمسلمين ولا تنصفهم. بآرائه وطروحاته تلك يعزز من نرجسية واهمة، بل ودَيْن للمسلمين على الغرب. وهو بهذا لا يصنع فرقًا بل يثبّت ما في الأذهان وما تغلغل المخيال. أخذ ذروة تماديه عندما تحدثّ عن كون الإسلام نفسه «الدين الأوروبي»، بينما هو من بين الأديان التي عاشت في أوروبا ضمن دياناتٍ أخرى.
ثمة خطاب قديم متحجّر لم يتطوّر منذ عقود، الخطاب الإسلامي في أوروبا لم يعد يخاطب مجموعة قليلة من العاملين والمبدعين، أو اللاجئين قسرًا، وإنما يواجه الآن زحفًا مهولاً من اللاجئين السوريين، يحملون ثقافة مختلفة، وخيالاً مناقضًا للذي ساد لدى المسلمين المستقرّين منذ نهاية عهود الاستعمار، وأنتجوا أجيالاً أكثر نضجًا من المسلمين المتشرّبين للثقافة الأوروبية وقيمها. تلك النبرة تساهم في تعزيز شرعية وحجج التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، خطابات المنّة أو ممارسة المركزية الثقافية على الحضارة الأوروبية وترسيخها بالخطابات الدينية والمناسبات التي تعقب العمليات الإرهابية. بعد أحداث باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، كانت التحديات أكبر من الخطابات المتحجّرة التي تلوك كلامًا يتحدّى مشاعر الأوروبيين بالمقابل يداعب وجدان المسلمين، ويعزز مصداقية أحزاب اليمين.
صوت طارق رمضان عبارة عن نموذج أدخل من خلاله لانتقاد مشابهين له آخرين، وإن كانوا أقل تأثيرًا وأضعف تعلّمًا، هم معه يعززون هذا النمط من نبرة الخطاب المتعالي وتشابه المقولات الطهرانية، من هنا تأتي أهمية دعوة مجموعة من المفكّرين العرب في فرنسا منذ أواسط الثمانينات بإنشاء كلية دينية في إطار «اتفاقية ستراسبورغ» من خلالها تعمل على تكوين أئمة يتمكنون من الجدل وتعدد التأويلات التي خلّفها التراث الديني المهمل في البلدان الإسلامية بغية مقاربة الظاهرة الدينية عن طريق فقه اللغة وعلم التاريخ والانثربولوجيا والتحليل النفسي والدراسات المقارنة. ورغم تأسيس أكثر من مجلس إسلامي في أوروبا لوضع التداول الإسلامي بشكلٍ مؤسسي فإن الغالبية من المسلمين لا يصدرون عنها، وحين تحدّث مسؤولون في ألمانيا وبريطانيا حول العمل على تبويب ثقافة إسلامية تستوعب القيم المعيشة في هذه الدولة أو تلك ثارت ثائرة البعض بوصف ذلك عدوانًا على الحريّة أو التعددية والتنوّع، بينما على العكس، مثل هذه الإجراءات تحد من تفاقم العدوان اليميني على المسلمين، إذ تندمج بالإضافة إلى الثقافة الإسلامية الأساسية حال من الوعي والتفاهم والانسجام مع الثقافة المختلفة في بلد السكنى أو اللجوء.
قمّة النرجسية المتعالية أن نتحدّث في وسائل الإعلام الأوروبية (كما فعل طارق رمضان) ونحمّل تلك الدول مسؤولية ظهور «داعش» مثلاً بينما تتحدّث بعض الأرقام عن أن واحدًا من أصل خمسة فرنسيين يمثّلون قاعدة ناخبي الحزب اليميني العنصري (الجبهة الوطنية)! بالمقابل ليس المطلوب من المسلمين تحمّل الإدانات والنبز والتمييز، وإنما حذو التجارب الناجحة للأمم والديانات والأعراق الأخرى، وبخاصة في ظل هذا الموج من اللاجئين في ألمانيا تحديدًا وبقية الدول الأوروبية الأخرى، وأبرز تلك الأسس استيعاب القيم الأوروبية وحريّة التعبير وتحمّل النقد في المسرحيات والصحف ووسائل الإعلام.
تراوغ بعض الخطابات المنتمية للمسلمين هناك حين الحديث عن «الهويّة» بوصفها منغلقة مصمتة، ولهذا يؤسسون كيانات منعزلة، وينكفئون عن المجتمع، ويضربون عن تعلم لغة البلد المقصود، وهذه أخطر صياغة للهوية، وهي الكفيلة بتحويل التجمعات الإسلامية إلى مشاريع خلايا إرهابية أصولية كما حدث في فرنسا قبل أشهر قليلة، عبر تحالفٍ استثنائي بين كيانات مغلقة على أسس الهوية في بلجيكا مستثمرة سيل اللاجئين المسلمين في ضواحي باريس وسواها، من هنا جاءت صرخات الساسة بضرورة فهم ثقافة البلد المقصود والإجبار على تعلّم اللغة، هناك ضوابط وقوانين على اللاجئين هناك، هي ليست ضدهم على الإطلاق وإنما توضع لمستقبلهم ودمجهم وإفادتهم وإزالة غربتهم ووحشتهم، ما يزرع الغربة والوحشة والكراهية هو جدر «الهويّة» الواهمة المدمّرة.
ليس سرًا أن اليمين المتطرف في أفضل حالات انتعاشه حاليًا، بسبب من استفزاز الطوفان الآتي، وتغلغل التنظيمات المتطرفة، ووحشية العمليات الإرهابية، هذا بالإضافة لكون المسلمين لم يحددوا بعد دنيوية واقعهم وأصالة براءة الآخرين الذاتية، هذا الاضطراب في فهم موقع الدنيا أسس لموجاتٍ من الاضطراب في العلاقة مع الغرب، ولعل مثال الدكتور طارق رمضان غاية في الوضوح، بوصفه متعلّمًا وفصيحًا غير أن النتائج التي يطرحها والمقولات التي يدوّرها على الشاشات الفضائية لم تخدم المسلمين بشيء، بل في غالبها تخاطب وجدانهم وتطمئنهم على صواب الانغلاق والانكفاء، وتخدم تلك المقولات اليمين المتطرف.
الحقيقة متوزّعة أمامك، خارج أنفاق هويّتك، إنها في الآفاق من حولك، وقديمًا كتب «غوته» - ديوان الألمان الشغوف بالشعر العربي -: «ليس بالضرورة دائمًا أن يتخذ الحق جسمًا، يكفي أن يحوم في الضواحي كروحٍ، ويحدث نوعًا من التوافق مثلما تفعل الأجراس حينما يطوف رنينها في الجوّ، حاملاً السلام».