زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

السياسة الخارجية السعودية من خلال (القوة الناعمة)

(القوة الناعمة) مصطلح: أبرزه وخدمه وحاول تأصيله المفكر الأميركي جوزيف ناي. وله كتاب معروف في هذا الشأن: عنوانه وموضوعه (القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية).. يقول في كتابه هذا: ((ترتكز القوة الناعمة لبلد ما على ثلاثة موارد هي ثقافته (في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين).. وقيمه السياسية (عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج).. وسياسته الخارجية (عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية وأخلاقية)).. ثم بسط القول في مورد أو ركيزة (الثقافة) فقال: ((عندما تحتوي ثقافة بلد ما على (قيم عالمية) وتروج سياساته قيما ومصالح يشاركه فيها الآخرون، فإنه يزيد من إمكانية حصوله على النتائج المرغوبة بسبب علاقاته التي يخلقها من الجاذبية والواجب. فالقيم الضيّقة، والثقافات المحدودة يقل احتمال إنتاجها للقوة الناعمة.. والولايات المتحدة تستفيد من ثقافة عالمية التوجه. ولقد جادل المحرر الصحافي الألماني جوزيف جوف - ذات مرة - بأن قوة أميركا الناعمة أعظم من أصولها وموجوداتها الاقتصادية والعسكرية)).
إن الولايات المتحدة - منذ قامت - وهي تعتمد - في المقام الأول - على (القوة الخشنة): البدائية والحديثة.. فلماذا ظهر هذا الاتجاه الجديد: الداعي إلى القوة البديل، أي إلى (القوة الناعمة)؟!
قد يقال: إن القوة الخشنة باهظة التكاليف في الأنفس والأموال.
وقد يقال: إن القوة الخشنة كان لها زمانها ومناخها. ولقد جد من الزمان والمناخ ما يتطلب نقيضها.
وقد يقال: إن زوال الخطر الشيوعي - الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي - قد قلل من الإفراط في الاعتماد على (القوة الخشنة).
وقد يقال.. ويقال الخ.
وكل ما ذكر آنفا صحيح، بيد أنه لا ينفي ولا يلغي تفسيرات أخرى للتوجه الجديد نحو (القوة الناعمة).. ومنها
1 - أن الرأي العام العالمي قد بلغ من النضج ما جعله ينفر بشدة من القوة الخشنة المتمثلة في الضرب والقتل والحروب، وما جعله - بالتالي - ميالا للسلام، شغوفا به أيما شغف.. ومما لا ريب فيه: أن السلام من صميم (القوة الناعمة).
2 - التقدم العلمي والتقني الذي ألغى أو قرب المسافات بين الأمم، وهذا نوع من القوة الناعمة الدافئة. فالتباعد والعزلة من شأنهما إضعاف العلاقة بين الناس.. وحين يتباعد الناس: يكثر جهل بعضهم ببعض، وينشأ - من ثم - سوء التقدير وسوء الظن مما يؤدي إلى إيثار التعامل بالقوة الخشنة.
3 - أن القوة الخشنة يمكن أن يستخدمها أعداء البشر وأعداء حضارتهم وهم الإرهابيون.. ومن هنا اقتنعت قطاعات بشرية واسعة بحقيقة تطهير الكوكب من العنف بأشكاله كافة.. وكراهية القوة الخشنة (العنف) تساوي الحب للقوة الناعمة.
4 - يتعزز ذلك كله بما هتف به وأكد عليه ميثاق الأمم المتحدة الذي جعل (السلام) بين الأمم - وهو مناخ القوة الناعمة -: أول مقاصده، وأسمى مضامينه.. ونحسب أن الرأي العام العالمي يقترب - حثيثا - من روح هذا الميثاق، وهو اقتراب يغذي - ويؤصل - الاتجاه إلى (القوة الناعمة).
نقول ذلك بمناسبة الجولة الآسيوية الطويلة لولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز. فقد زار كلا من باكستان واليابان والمالديف والهند والصين، وهي زيارة يمكن تصنيفها أو صبها في مصطلح (القوة الناعمة).
فإذا شئنا التفصيل قلنا: إن القوة الناعمة هي:
1 - التجارة والاقتصاد والاستثمار.. وقد كان ذلك قضية رئيسية في جميع المباحثات التي جرت في تلك الزيارة في تلك البلدان.
2 - العلم والمعرفة.. وهذا موضوع كان ركيزة كبرى من ركائز الزيارة أو الجولة الآسيوية، إذ يستحيل أن تكون هناك (قوة ناعمة) من دون العلم والمعرفة. فإذا كان العلم والمعرفة: حضرت القوة الناعمة بفاعلية وتفوق مطرد. فاليابان - مثلا - جُرِّدت - لأسباب معروفة - من القوة الخشنة، لكنها بالعلم والمعرفة أصبحت (قوة ناعمة) على مستوى الإقليم والعالم.
3 - الفكر والثقافة.. نستعيد - ها هنا - عبارة صاحب نظرية القوة الناعمة وهو جوزيف ناي. فقد قال: ((إن بلدا ما يمكن أن تكون لديه (قوة ناعمة) إذا كانت لديه (قيم عالمية) يشاركه فيها الآخرون)).
فهل يملك السعوديون هذه الثقافة أو القيم العالمية؟
إن منبع القيم لدى السعوديين هو: الإسلام. فهل نجد في هذا المنبع (قيما عالمية) يؤمن بها آخرون في كوكبنا هذا؟
أجل.. أجل.. أجل.. ونعم.. نعم.. نعم إلى آخر أدوات التوكيد.
وهذه هي بعض (القيم العالمية) المشتركة:
1 - قيمة الإيمان بالله: رب الناس، ملك الناس، إله الناس: الناس جميعا، الناس كلهم: بصفتهم المشتركة هذه.
2 - قيمة الإيمان بالرسل جميعا، وبالكتب التي أنزلت عليهم: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)).
3 - قيمة وحدة الجنس البشري في الأصل والمنشأ: ((خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)).
وهذه الوحدة إطار عام للتعددية والتنوع في الألوان واللغات: ((ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم)).
وهو تنوع غايته التعارف الإنساني العام: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)).
4 - قيمة تكثير الصداقات، وتقليل العداوات: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)).
وهذه قاعدة دبلوماسية مكينة جذابة.. نعم، وهي قبل ذلك - خلق ديني كريم ينزع إلى تكثير الأصدقاء، وتقليل الأعداء بـ(النعومة الأخلاقية والسلوكية).. وهذه القاعدة من (المشتركات الإنسانية)، فما من إنسان عاقل في هذه الأرض إلا وهو يحب من يحسن إليه، ويتلطف معه، وما من إنسان عاقل في هذه الأرض إلا وهو يكره من يسيء إليه، ويغلظ معه.
لقد هتف نبي الله إشعياء في الناس وناداهم بأن (اجعلوا الرماح مناجل)، أي حولوا الرماح التي تقتل الإنسان إلى مناجل تستعملونها في حصاد الزروع والبساتين.
فهل نريد نحن أن نجعل الحياة كذلك؟
يا ليت.
بيد أنه فرق بين (الأمنية) و(الواقع)
والواقع التاريخي - والراهن - يقول: إنه من غير المستطاع تصور البشرية أسرابا من الحمائم اللطيفة التي تغرد وتتهدل (من الهديل الذي هو صوت الحمام ولغتها).
وحين نطالب بالقوة الناعمة لا نذهل عن (القوة الأخرى) التي تحمي القوة الناعمة وتدفع شر الأشرار وعدوان المعتدين، بيد أن هناك فرقا كبيرا بين (القوة الناعمة) - كأصل أصيل في العلاقات الدولية - وبين القوة الحارسة الدافعة كاستثناء واحتياط وردع ضروري. فالأصل - في مخاطبة الآخرين - هو حسن الخطاب وجميل الكلام والأسلوب، لكن لا مانع من رد الظلم عن الذات كاستثناء في حالة ضرورة: ((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)).