سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

إيران: الكنز المفقود

لا صوت يعلو على أخبار الصفقات التي تعقدها إيران مع الدول الغربية، بعد حصار اقتصادي دام عشرة أعوام. البلد المنعتق من أغلاله يتنفس الصعداء مع الإفراج عن أمواله المجمدة في كل من أميركا والصين والهند، ودول غيرها. أوروبا التي تفيض باللاجئين ويتصدع فضاؤها الحر، كما تعاد نقاط التفتيش بين دولها، وتتصاعد الأصوات التي تحذر من فقدان المزيد من فرص العمل فيها، تجد في إيران متنفسًا. اللاجئون الذين باتوا يحملون، بمجرد أن تطأ أقدامهم الشواطئ اليونانية، يعادون إلى تركيا، دون أن يفرمل ذلك إصرارهم على المجازفة، هؤلاء تتعاظم معضلتهم التي لا بد لها من حل. السويد تضع إنسانيتها وراء ظهرها، وتقرر ترحيل 80 ألف لاجئ. ألمانيا تعبت من العطف الفائض، وفرنسا بلبلها الإرهاب، حتى خارت عزيمتها.
الرئيس الإيراني حسن روحاني في جولته الأوروبية، مرحب به، ومحترمة رغباته، حتى تماثيل الفاتيكان تحجبت كي لا تزعج ناظريه. يصل الرجل إلى أوروبا منهكة، تتمزق تحت ضربات الأزمات المتلاحقة، وتبحث عن بصيص أمل، عزّ رجاؤه في زمن تتآكله المحن. أوباما المنشغل بانتخاباته الرئاسية بالكاد يدير الأزمات بما تبقى له من طاقة.
وصفت صحيفة فرنسية الاتفاقية الإيرانية - الفرنسية لشراء 114 طائرة «إيرباص» بـ«الصفقة التاريخية». تحتاج إيران إلى 400 طائرة أخرى، لذلك تسنّ «بوينغ» أسنانها، والمنافسة شرسة. اللعاب يسيل على منجم الكنز المكتشف، الذي فتحت أبوابه، فجأة، أمام شركات كبرى، كثير منها من بدأ بصرف موظفيه. ليس الوضع المالي العالمي بأحسن أحواله، وإيران بحاجة إلى إعادة تأهيل بناها التحتية، مضطرة لزيادة ضخ بترولها وغازها، وتحديث ما اهترأ من محطاتها. الشركات الإيطالية فازت، بحصة الأسد وبمبلغ وصل إلى 18 مليار دولار.
البلد الذي ينام على رابع احتياطي للنفط في العالم، أصبح مباحًا للمستثمرين، وبات خطب ود عدو الأمس غاية في ذاتها. حقًا، ما كانت لتتوفر فرصة أفضل من هذه، والمحنة على أشدها. صار الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يتكلم بعض الكلمات الفارسية، وكان جيسكار ديستان، يقضي الوقت الضائع في تعلم الألمانية. لكل لغة وقتها ووظيفتها.
الحاجة تدفع البعض إلى ما لم يكن متصورًا منذ أشهر. لم يعبأ الرئيس الفرنسي كثيرًا بالرسالة التي وجهها إليه 60 برلمانيًا وعضوًا في مجلس الشيوخ يطالبونه بموقف حاسم في وجه الرئيس الإيراني وهو يزور باريس. ذكّر هولاند ضيفه، من باب رفع العتب أن «فرنسا تتمسك بحقوق الإنسان وقيم الحرية، في كل العالم». مما استدعى سخرية «باري ماتش» التي اعتبرت عبارات هولاند أشبه بـ«حقنة للتنبيه».
ليس هذا وقت الجرعات العلاجية. خسرت فرنسا نحو ثلاثة مليارات ونصف المليار يورو من التبادلات التجارية مع إيران، سنويًا، بسبب الحظر، وهي تسعى لرفع الرقم ما أمكن، وتعويض ما هدر.
تنهال الأرقام حول الحاجات الاستثمارية لسوق الثمانين ألف مواطن. دراسة سمّت نفسها «إيران تعود إلى اللعبة»، استنتجت أن بإمكان شركات التأمين الفرنسية وحدها أن تكسب أكثر من مليار يورو في إيران، سنويًا، إنْ هي اقتحمت السوق، كما ينبغي. باتت المواقف تحتسب بالدولارات واليوروات، مع تصاعد القحط.
ستبقى منطقة الشرق الأوسط، بعربها وعجمها، بالنسبة للغرب مصدر رزق لا ينفد. فثمة دائمًا ما يستدعي دعوة الشركات الكبرى التي تفرك يديها، وتتأهب. اليوم كان دور السلاح، وبعد غد تحين ساعة الإعمار. ومتى استنفدت البئر الإيرانية، تفتح الساحة السورية والليبية التي يقول البنك الدولي إنهما تحتاجان إلى 270 مليار دولار لاستعادة ما تهدم، ولإنهاض البلدين من الدمار. مبالغ على خياليتها، لن تكون كافية لإعادة الماء والكهرباء وتمديدات بعض المجارير الصحية.
تبين، بفعل التجربة، أن أموال إعادة الإعمار تذهب إلى جيوب المختلسين والسماسرة في الدول العربية. لبنان، على صغر حجمه، تفوق ديونه السبعين مليار دولار، ولا يزال دون بنى تحتية. العراق أسوأ حالاً وأدهى. ثمة من لا يزال يتباكى على أموال الإعمار هناك التي أهدرت بمئات مليارات الدولارات، والإمعان في الخراب متواصل.
الأكذوبة هي ذاتها، والنفاق هو عينه. لم يعد مهمًا ما فعلته إيران أو ما تنوي فعله. ثمة انشغال الآن، بحاجات السياحة الإيرانية والنقص في عدد الفنادق، مما سيفتح أبواب الرزق لأصحاب الخبرة، حيث ينتظر وزير السياحة الإيراني «تسونامي» من الزائرين لاكتشاف البلد المحجوب لأكثر من عقد. الأعين مفتوحة على صناعة السيارات التي تحتاج عضدًا من الشركات الأوروبية وعلى رأسها «بيجو» و«مرسيدس» و«فولكس فاغن». وهناك أيضًا الشاحنات، والإطارات، وحتى أدوات التجميل التي أخذت بالحسبان، نظرًا لعشق الإيرانيات للتبرج.
من الصين التي عقدت 17 اتفاقية مع إيران مرورًا بالهند وصولاً إلى بريطانيا، والولايات المتحدة ولو على خجل، اللعاب يسيل على المليارات الإيرانية، وسوريا لا ينعقد حتى مؤتمر يبحث في أمرها بجدية. وبالتالي، يصح القول بعد ما رأيناه من ترحاب بالرئيس روحاني الأسبوع الماضي:
إن الدراهم كالمراهم تجبر العظم الكسيرا
لو نالهن ثعيلب في قومه أضحى أميرا