داليا عاصم
كاتبة صحافية وباحثة في علم الاجتماع الافتراضي
TT

الإنسان حيوان افتراضي!

منذ أيام طرح الروائي والمبدع السعودي عبده خال الذي تربطني به "صداقة افتراضية فيسبوكية"، تساؤلا جوهريا حول عدد الصداقات الافتراضية على موقع فيسبوك: "كل هؤلاء أصدقاء..؟ هل تستطيع ان تلتقي بـ 5000 صديق يوميا؟" ووجدت عدد كبير أيضا من أصدقائي يعلنون غضبهم من الأصدقاء الافتراضيين الصامتين الذين يكتفون بالوجود ضمن قائمة الأصدقاء دون تبادل الكلمات والآراء.
بالطبع هناك اختلاف بين معنى الصداقة والمشاعر المرتبطة بها بين الواقع المعاش والفضاء الافتراضي. فلم يكن الواقع يوما يقبل منطق أن يكون لدينا آلاف الأصدقاء نتواصل معهم يوميا برغم بعدهم المكاني عنا آلاف الأميال. لكن علينا أن ننتبه إلى أن الصداقة أو "العلاقات الاجتماعية" انتقلت معنا من الواقع إلى الفضاء الافتراضي؛ فكم من صديق دراسة باعده الزمن والتقيته عبر "فيسبوك"؟! كما أن العكس صحيح أيضا.
وأرى أن مقولة أرسطو الشهيرة "الإنسان حيوان اجتماعي" تنطبق بامتياز على الإنسان في عصر "شبكات التواصل الاجتماعي" وهو الأمر الذي جعله يستغل الانترنت لخدمة غريزته وفطرته الاجتماعية، فأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي هي السبيل لتحقيقها. وقد ذهب البعض إلى مقاربة تلك المقولة الشهيرة على الواقع المعاش في ظل ثقافة الفضاء الافتراضي بأن الإنسان "حيوان فيسبوكي".
لقد وجدت أثناء دراستي لآليات التفاعل الاجتماعي عبر "فيسبوك" ومحاولة إعداد مقياس لرأس المال الاجتماعي الافتراضي؛ أن "عدد الأصدقاء Number of Friends" يصلح كمؤشر يكشف عن كيفية إدارة الشخص لعلاقاته الاجتماعية، كما يوضح شبكة علاقاته ومدى تشعبها وقدرته على التشبيك والتعاون والثقة التي يتمتع بها بين أصدقائه. ويمكننا من استنباط حجم رأس المال الثقافي والرمزي له؛ فمثلا: الكتاب والأدباء لديهم عدد صداقات بالآلاف، لأن قراءهم ومحبيهم ومريديهم أصبح بامكانهم التواصل المباشر معهم من مختلف بلدان العالم، بل ويكسبون مزيدا من القراء عبر هذه الصداقات الافتراضية، بينما يتراوح معدل الصداقة لأعضاء فيسبوك العاديين ما بين 300 إلى 600 صديق، بحسب استطلاع أجريته أواخر عام 2013.
وقد أبهرني فيسبوك بوجود تقارب فكري بين بعض الأصدقاء الافتراضيين حتى قررنا اللقاء وتحولت العلاقة إلى علاقة صداقة حقيقية دون زيف أو مصلحة، بل على العكس، وجدت خلال الوعكة الصحية التي ألمت بابنتي "شهامة افتراضية"، عابرة للمحيطات والكابلات والرقائق الالكترونية من أصدقاء حاولوا الوقوف الى جانبي ومساندتي بكل الطرق في حين أن الأصدقاء الواقعيين لم يكن لهم نفس الدور أو الاهتمام! تلقيت الدعم والمساندة اللحظية واستطعت الاستفادة منها على أرض الواقع، فلم أكن يوما أتوقع أن ما أكدته العديد من الدراسات والأبحاث التي قرأتها من أهمية للدور الذي تلعبه شبكة الانترنت في تقوية العلاقات بين أناس متشابهين في المعتقدات والاهتمامات والخبرات الحياتية، حقيقيا وفعالا إلى هذه الدرجة.
ذلك هو الرصيد الفعال من الصداقات، وهو ما نطلق عليه في علم الاجتماع "رأس المال الاجتماعي الافتراضي".
ان "رأس المال الاجتماعي" يشبه كثيرا "رأس المال المادي" لكن المقصود به: رصيد العلاقات الاجتماعية الذي يعود على الفرد بالنفع، كما عرفه الفيلسوف والعالم الفرنسي بيير بورديو.
أتصور أن عادات وممارسات مستخدمي موقع "فيسبوك"، ساهمت في تغيير خريطة رأس المال الاجتماعي لدى المشتركين به. وأن ارتباطنا بالمئات والآلاف من الأصدقاء عبر مواقع الشبكات الاجتماعية مثل "فيسبوك" يتيح لنا صلات وروابط وتشبيكات لا يتيحها الواقع. وكلما مرت سنوات على عضويتك الافتراضية في موقع ما ستجد عدد أصدقائك الافتراضيين عليه في تزايد، فهناك الآلاف ممن يتوافقون مع طباعك وآرائك وميولك ستجدهم أقرب إليك من أشخاص يجلسون بجوارك! وأرى يوميا أثناء تصفحي للمواقع الالكترونية أصدقاء يطلبون الدعم والمساندة في السؤال عن عنوان ما، أو هاتف طبيب، أو كتاب عن موضوع ما، أو حتى عن خبر تتناقله وسائل الإعلام، أو معلومات عن طفل تائه، وفي وطننا العربي ما أكثر ما طرحناه من تساؤلات عبر الفضاء الافتراضي عن وجود انفجارات أو قنابل في حي ما!
أجد أن مسألة "الصداقة الافتراضية" جانب من الجوانب الإيجابية للحياة التي فرضتها علينا التكنولوجيا وتساهم في كثير من الأحيان في "الخير العام" للمجتمعات، كما أن لها جوانبها المظلمة في أحيان أخرى. وأعتقد أنني وغيري ندين بالفضل لهذا الفضاء الافتراضي، لأنه أحيانا يكون الصديق الافتراضي بـ"100 راجل"!.