تمر الحياة الإبداعية في أميركا بلحظة محفوفة بالمخاطر؛ فبينما لم يكن كسب الرزق كفنان أمراً سهلاً على الإطلاق، فإن قوة الذكاء الاصطناعي التوليدي تدفع العاملين في المجالات الإبداعية لمواجهة سؤال مزعج: هل هناك مكان للعمل الإبداعي المدفوع الأجر في ظل الرأسمالية المتأخرة؟ وماذا سيحدث لمشهدنا الثقافي إذا تبين أن الإجابة بالنفي؟
بصفتنا عالمتي اجتماع، ندرس العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، قضينا العام الماضي في طرح أسئلة على العاملين المبدعين حول الذكاء الاصطناعي. لقد تحدثنا إلى مؤلفي كتب، وكتاب سيناريو، ومؤدي أصوات، وفنانين بصريين، كما أجرينا مقابلات مع قادة نقابات عمالية ومحامين وتقنيين. وخلاصتنا من هذه المحادثات هي: أن ما يهدده الذكاء الاصطناعي ليس الإبداع البشري في حد ذاته، بل القدرة على كسب العيش من المساعي الإبداعية.
إن التهديد هائل، لكن النتيجة ليست حتمية؛ فالإجراءات التي سيتخذها الفنانون والجمهور والجهات التنظيمية في السنوات القليلة المقبلة سوف تشكل مستقبل الفنون لفترة طويلة مقبلة.
وفي غضون فترة وجيزة، أصبح المحتوى المُنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي في كل مكان، فقد انتشرت النصوص النثرية المكتوبة بأسلوب الذكاء الاصطناعي الممل والمميز، بينما في الأشهر الأخيرة، ملأت أدوات أحدث مثل «Sora 2» و«Suno» الإنترنت بأغانٍ ريفية ناجحة، وصور لقطط «موتشي» هلامية.
إن السؤال الذي يحيط غالباً بإطلاق أي نموذج للذكاء الاصطناعي التوليدي هو ما إذا كان قادراً على إنتاج فن بمستوى ينافس البشر من عدمه. لكن المبدعين الذين تحدثنا إليهم لم يكونوا معنيين إلى درجة كبيرة بهذا المعيار؛ ففي نظرهم، إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على إنتاج عمل يضاهي عمل البشر، فإن ذلك يعود فقط إلى أنه «سُرق» منهم.
وصفت كارلا أورتيز، وهي رسامة تشكيلية وفنانة مفاهيمية، اللحظة التي شاهدت فيها الذكاء الاصطناعي وهو ينتج فناً بأسلوبها الخاص، قائلة: «شعرت وكأنها طعنة في البطن. لقد كانوا يستخدمون سمعتي، والعمل الذي تدربت لعقود - بل طوال حياتي - للقيام به، وكانوا يستخدمونه فقط لتزويد عملائهم بصور تحاول تقليدي».
غالباً ما يزعم مؤيدو الذكاء الاصطناعي أنه مهما بلغت جودة التكنولوجيا، فإنها لن تتمكن أبداً من مضاهاة موهبة وبراعة الفن البشري المتفوق. يعتقد أميت غوبتا - الشريك المؤسس لأداة «Sudowrite» المصممة للكتابة - أن الذكاء الاصطناعي «سيساعدنا على الوصول إلى علامة الـ80 في المائة أو ربما الـ90 في المائة» من جودة الكتابة البشرية، «لكننا سنظل قادرين على تمييز تلك اللمسة الأخيرة». وأشار غوبتا إلى أن أي شخص لديه هاتف آيفون يمكنه التقاط صورة جيدة جداً، ولكن «لا تزال هناك صور تُعلق في المتاحف؛ وهي ليست الصور التي التقطها أشخاص مثلي ومثلك».
وعلى نحو مماثل، تحدث سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «OpenAI»، عن كيف سيعوض الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف «الإنسان المتوسط» في معظم المجالات، ولكن ليس المبدعين المتفوقين. ومع ذلك، هناك مشكلة في هذا المنطق: العباقرة الفنيون الفريدون في نوعهم قليلون جداً ومتباعدون. فالفنانون، مثل معظم الأشخاص الذين يحاولون القيام بشيء صعب، يميلون إلى التحسن مع الكثير من الممارسة. والشخص الذي يكون - لاستعارة عبارة السيد ألتمان - كاتباً «متوسطاً» في العشرينات من عمره، قد يتحول إلى كاتب عظيم في الأربعينات من عمره من خلال بذل الكثير من الوقت والجهد.
إن «الأعمال الإبداعية الشاقة» التي يوشك الذكاء الاصطناعي على استبدالها هي ذاتها التي تساعد الفنانين الناشئين على صقل مهاراتهم، ناهيك عن دفع فواتيرهم. في السنوات الأولى من مسيرتها المهنية، كانت السيدة أورتيز تعيل نفسها من خلال تلوين القصص المصورة، وصنع رسومات لشركات ألعاب الفيديو.
وبصفتها ناشئة من خلفية من الطبقة المتوسطة الدنيا في بورتوريكو، تقول أورتيز إنها «لم تكن لتتمكن من العيش بوصفها فنانة لولا تلك الوظائف التي لا يستطيع الكثيرون اليوم العثور عليها»؛ لأن أصحاب العمل المحتملين باتوا يستخدمون الذكاء الاصطناعي بدلاً منهم. فإذا كان الذكاء الاصطناعي هو من يلون القصص المصورة، ويدوّن الملاحظات في غرف كتابة المسلسلات التلفزيونية، ويفرز أكوام النصوص المقدمة لدور النشر، فكيف سيتمكن المبدعون الشباب من إتقان أدواتهم؟ وكيف سيؤمنون كسب عيشهم في أثناء قيامهم بذلك؟
هذه ليست ظاهرة مستحدثة؛ فمصطلح «الفنان الجائع» لم يصبح كليشيهاً من فراغ. فلطالما عانت أسواق العمل الإبداعية والثقافية من اختلال التوازن بين العرض والطلب؛ إذ يوجد عدد من الراغبين في الكتابة والرسم والإخراج والتمثيل وعزف الموسيقى أكبر بكثير من الوظائف المدفوعة الأجر المتاحة. ونتيجة لذلك، لا يتقاضى أغلب الفنانين أجوراً جيدة مقابل أعمالهم الأكثر إشباعاً من الناحية الإبداعية. تاريخياً، منح هذا الوضع أفضلية لأولئك الذين يمتلكون العلاقات التي تؤهلهم للحصول على تدريب غير مدفوع الأجر - ولكنه مرغوب بشدة - في معرض فني أو استوديو سينمائي، والذين يمتلكون ثروة مستقلة تغطي تكاليف الطعام والإيجار في أثناء القيام بذلك.
لم يخلق الذكاء الاصطناعي هذه التفاوتات، لكنه قد يؤدي إلى تفاقمها إذا أدت هذه التكنولوجيا إلى القضاء على نوعية وظائف «المستوى المبتدئ» التي تسمح للفنانين في بداية مسيرتهم ببناء علاقات وكسب عيشهم - مهما كان ضئيلاً - في المجالات الفنية. وبالفعل، هناك خوف سائد من استخدام الذكاء الاصطناعي كذريعة لإلغاء الوظائف حتى لو كانت مخرجاته غير مبهرة. يقول لاري جيه كوهين، كاتب تلفزيوني وعضو في فريق عمل الذكاء الاصطناعي بنقابة كتاب شرق أميركا: «عندما يُطبق الذكاء الاصطناعي التوليدي في الواقع العملي، تكون فاعليته محدودة ومخيبة للآمال ومتوسطة الجودة بشكل كبير».
ولكن، وبسبب ما أسماه السيد كوهين بـ«حقل تشويه الواقع الكامل» المحيط بالذكاء الاصطناعي، فإن هذه الجودة المتوسطة قد لا تهم حقاً؛ فقد تستخدمه الاستوديوهات على أي حال لمجرد خوفها من تفويت هذه الفرصة.
هناك مصطلح علمي يصف هذه الحالة: «التماثل المؤسسي»؛ ففي ورقة بحثية نُشرت عام 1983، واجه عالما الاجتماع بول ديماجيو ووالتر باول لغزاً ظاهراً: لماذا تتشابه المنظمات في مجال معين في هياكلها وممارساتها ومنتجاتها في كثير من الأحيان، حتى عندما يكون من المفيد لها أن تتمايز عن بعضها؟ جادل ديماجيو وباول بأنه عندما تعمل المنظمات في بيئة يسودها عدم اليقين، خاصة تلك التي تكون فيها «التقنيات غير مفهومة بصورة جيدة»، فإنها تراقب ما تفعله المنظمات الأخرى وتقوم بتقليدها. ونتيجة هذه المحاكاة هي أنه بمرور الوقت، تُعدّ أنماط معينة من العمل أمراً مسلماً به بوصفها الأنماط الصحيحة والمشروعة داخل المنظمة، حتى لو لم تسهم كثيراً في تحقيق أهدافها.
وبما أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يُعد بالتأكيد تقنية «غير مفهومة بصورة جيدة»، فلا ينبغي لنا أن نتفاجأ برؤية هذا النوع من عملية «التماثل» تتجلى داخل الصناعات الإعلامية.
ففي مفاوضات العقود الخاصة بنقابات كتاب شرق أميركا، لاحظ المدير التنفيذي للنقابة، سام ويلر، أن شركات الإعلام تقاوم المطالب المتعلقة بحماية العمال من الذكاء الاصطناعي بعناد لا يُرى عادة إلا في القضايا المالية الصرفة، مثل تكاليف الرعاية الصحية للموظفين. لقد تمسكت الشركات بموقفها المتصلب بشأن الذكاء الاصطناعي حتى عندما بدا أنها لا تملك أفكاراً ملموسة حول كيفية استخدامه فعلياً. وقد ذُهل ويلر من اقتران «انعدام الخطة» بـ«اليقين بأن خطة ما ستظهر مستقبلاً». وعندما تظهر تلك الخطة في النهاية، فإن آخر ما يريده المديرون التنفيذيون هو أن تكون أيديهم مكبلة بقواعد النقابات.*خدمة «نيويورك تايمز»
