رغم التقدم التكنولوجي الهائل، فإن العاملين في مصانع «تويوتا» يمتلكون الحق المطلق في إيقاف عملية التصنيع فور رؤيتهم خللاً ما في مراحل الإنتاج. يسمونه بلغتهم «الجيدوكا» وهو «الأتمتة بلمسة بشرية». ذلك التفويض يوقف خروج منتجات معيبة، ويسمح داخلياً بتدارك الخلل، ومنع تكراره عبر استدعاء الخبرات الفنية فوراً.
التفويض موجود منذ الأزل، لكنه كان في العصور السابقة محصوراً غالباً في أوامر عسكرية أو إدارية صارمة نتيجة محدودية التعليم وغيره. وبعد الثورة الصناعية، تمددت الرقعة الجغرافية للشركات، وصارت تعمل في قارات مترامية الأطراف، وكثرت التخصصات الدقيقة، فصار من المهم أن يدخل التفويض إلى آفاق جديدة.
يُروى قديماً عن أحد قادة الجيوش قوله لأحد أتباعه: «افعل ما تراه صواباً... المهم أن نصل»، وهذا تفويض مفتوح، لكن تداعياته في عصرنا وخيمة، إعلامياً وعسكرياً وإدارياً. بعد ذلك بدأ يظهر ما يسمى لائحة الصلاحيات المالية والإدارية التي تحدد نطاق القرارات الإدارية التي يمكن للمسؤولين أن يتخذوها. منها مثلاً أنه يمكن أن يعيِّن موظفاً، لكنه لا يملك حق فصله، أو يمتلك حق اعتماد عروض سعرية، ولكنه لا يملك حق ترسية المشروع إلا بتوقيع أعلى.
دخل أمر جديد وهو إلزامية التوقيع المشترك بين مسؤولين اثنين، لضمان إحكام تطبيق قواعد الحوكمة لكيلا يدفع «المُفوض» مبلغاً أو شيكاً من دون تدقيق شخصين مسؤولين. وتُخطَر جميع المصارف بعدم قبول العمليات المالية في حدود مبالغ معينة من دون «إمضاء» مسؤولين يمتلك المصرف شكل تواقيعهما.
بعد الثورة الصناعية، ومع تطور الفكر الإداري صار التفويض مساراً مهنياً يستقله الأفراد للوصول إلى مراتب وظيفية عليا، فتبدأ المؤسسات بالتفويض المؤقت (عند خروج مسؤول في إجازة) فيتولى نائبه مهامه الوظيفية في غيابه. وهي فترة «جس نبض»؛ لأن هناك من إذا منحته السلطة ظهر على حقيقته، كتهوره أو اندفاعه أو تصادمه مع الجميع، وهناك من يخيم عليه خوف غير مبرر من اتخاذ أي قرار فَيَشُلُّ العمل.
من هنا نسمع عن إصرار قسم الموارد البشرية في المؤسسات المعتبرة على أن يتجاوز نائب المدير دورات تدريبية معينة تغرس فيه «جدارات» مثل اتخاذ القرارات، وحل المشكلات، والذكاء العاطفي، وهذه يمكن قياسها وملاحظتها بسهولة، وذلك حتى إذا ما تبوأ منصباً صار في مقدوره التعامل بشكل جيد مع كل موقف.
التفويض المعاصر وسيلة لتمكين الشباب؛ ولذلك تُمنح صلاحيات تدريجية حتى يثبت الفرد جدارته. والتفويض ليس جسراً للعبور للمناصب فحسب بل هو ممارسة يومية يحتاج إليها كل قيادي ليخفف عن كاهله عبء العمل، ويرفع كفاءة فريقه؛ ولذلك حينما ترى مسؤولاً مشغولاً أكثر من مرؤوسيه فذلك قد يعني خللاً ما في تفويضه أو حبه للمركزية. هذه الحالة لا تخلق قيادات جديدة، ولا يمكنها أن ترفع سقف الإنتاجية.
هناك دراسات عديدة قرأتها أظهرت أن ممارسة التفويض على نطاق واسع ترفع من الإنتاجية، ومعنويات العاملين، ورضاهم الوظيفي، كما أن الرؤساء التنفيذيين الذين يفوِّضون تبين أن عوائد شركاتهم أعلى بنحو الثلث من نظرائهم الأقل تفويضاً.
