أواصل حديثي عن اللغة الذي بدأته يوم الأحد الأسبق، بما كتبته بعنوان «لغتنا... من ينقذها؟»، وهو عنوان يفصح عن خوفي الشديد على اللغة من مصير لا نستطيع أن نتصوره أو نحتمله.
والحقيقة أن هذا الخوف له ما يبرره، وهذا ما أوضحته في حديثي الذي أردت به أن أنقل للقراء الأعزاء ما أشعر به، ليرى من يشاركونني فيه أنهم ليسوا وحدهم، ولينضم لنا من تشغلهم قضايانا الأخرى في السعي لإنقاذ اللغة. لأن الفصحى ليست كما يظن البعض لغة المشتغلين بالكتابة وحدهم، وإنما هي لغتنا جميعاً، مثقفين كنا أو حتى أميين؛ لأننا نحتاج جميعاً إلى الفصحى في نشاطنا الذي نحصل به على ما نريده في كل المجالات، ومنها أو معظمها مجالات لا يمكن لغير الفصحى أن تستعمل فيها. والأمي يحتاج لمؤسسات الدولة التي تستخدم الفصحى ويتعامل معها مثله مثل المثقف، ويحتاج للطبيب، والمهندس، والمعلم. ولا شك أنه يحتاج أيضاً لمحو أميته. فإذا لم يستطع هو أن يتعلم القراءة والكتابة فأولاده يستطيعون؛ لأن اللغة ليست لجيل واحد، وإنما هي لكل الأجيال، وللمستقبل أكثر مما كانت للماضي؛ لأننا لا نحتاج إليها لنتواصل بها في حياتنا اليومية فقط، وإنما نحتاج إليها لأننا نحتاج لثقافة تلبي حاجاتنا التي أشرت إليها.
ونحن إذن في أشد الحاجة للفصحى، بل نحن في حاجة للمزيد من الفصاحة؛ أي لتزويد الفصحى التي نملكها الآن بالقدرات التي تمكّننا من تلبية كل ما نحتاج إليه في هذا العصر الذي جدّت فيه حاجات لا تلبيها إلا لغة ناضجة مثقفة استجابت لثقافات الماضي وحاجاته المختلفة وسايرته وتطورت معه، وتستطيع أن تستجيب للحاضر والمستقبل، فهل نستطيع أن نراهن على لغة غير الفصحى تؤدي هذه الوظيفة؟ والجواب هو بالنفي بالطبع.
ثم إننا لا نحتاج للفصحى لنملك بها علوم العصر فحسب، وإنما نحتاج لها لنعرف بها أنفسنا، ونحيي تراثنا، ونحقق شخصيتنا القومية التي أصبحت الفصحى لسانها المعبر منذ دخل الإسلام بلادنا ودخلت معه لغته، وانتشرت كما لم يحدث في بلاد أخرى اعتنق أهلها الإسلام وظلوا يتكلمون لغات أسلافهم؛ كالفرس، والأتراك، والأكراد، والأفغان، وشعوب جنوب آسيا. وهناك حالة وحيدة حدث فيها العكس، وهي جزيرة مالطة التي فتحها العرب في القرن التاسع الميلادي، واستطاعوا أن ينشروا فيها دينهم ولغتهم حتى انتزعها النورمانيون من أيديهم بعد قرنين، وضيقوا الخناق على الإسلام الذي لم يعد له من يدافع عنه أو عن لغته الفصحى. لكن المالطيين ظلوا يتكلمون العربية بلهجتهم المحلية التي بقيت حية على ألسنتهم، وتطورت، وأصبحت لغة لها معجمها ولها نحوها، وليست مجرد لهجة من لهجات اللغة العربية. وبهذا اكتسبت حصانة أصبحت بها دعامة من دعائم الحركة الوطنية التي حصلت بها مالطة على حريتها، وصارت جمهورية مستقلة.
***
والدور الذي أدته هذه اللهجة العربية التي صارت لغة وطنية في مالطة يذكرنا بالدور الذي أدته في الجزائر لغتنا الفصحى التي عادت بها الحياة إلى هذا البلد العظيم الذي ظل يناضل في سبيل حريته واستقلاله مائة واثنين وثلاثين عاماً، لم يكف فيها الجزائريون عاماً واحداً عن المقاومة، ولم يكف المستعمرون الفرنسيون عن العمل لفرض وجودهم، وترسيخ أقدامهم مستخدمين كل الطرق والأساليب في تحقيق هذا الهدف: القمع الوحشي، وجلب المستوطنين وإحلالهم محل أهل البلاد وتسليحهم ليشاركوا الجيش الفرنسي في التصدي للثوار، كما حدث في عام 1945 في مدينة قسنطينة التي تعرض أهلها لمذبحة رهيبة انتهت بخمسة وأربعين ألف شهيد.
كما كانت اللغة أيضاً سلاحاً استخدمه الفرنسيون الذين حاربوا الفصحى ومنعوا تعليمها والتعليم بها، وأصدروا عام 1936 قانوناً اعتبروها فيه لغة أجنبية! وأغلقوا حتى الكتاتيب التي كان الأطفال الجزائريون يحفظون فيها القرآن الكريم.
ومن الطبيعي في هذا الصراع العنيف أن تكون الفصحى سلاحاً ماضياً يستخدمه الجزائريون في المقاومة، ويلتمسونه في المساجد والبيوت، ولدى أشقائهم في بلاد المغرب والمشرق، رافعين رايتهم الرفافة: شعب الجزائر مسلمٌ وإلى العروبة ينتسب!
وطوال هذه السنين التي فقد فيها الجزائريون حريتهم واستقلالهم، لم يتمكنوا من المشاركة في الإنتاج الثقافي العربي؛ لأن التعليم كما ذكرت كان بالفرنسية التي أصبحت هي لغة الكتابة، لغة الشاعر كاتب ياسين، والروائي محمد ديب، والمفكر الإسلامي مالك بن نبي، الذي لم يتمكن من الكتابة بالعربية إلا في عام 1960 الذي صدر فيها كتابه «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، ومالك بن نبي في الخامسة والخمسين من عمره. وفي ذلك الوقت بين عام 1956 وعام 1962 الذي حققت فيه الجزائر انتصارها النهائي ونالت استقلالها الذي دفعت ثمنه نصف مليون شهيد، كان هذا المفكر الكبير يعيش في مصر.
والنجاح الذي حققه الجزائريون في السياسة حققوه في الثقافة، فقد بدأوا سعيهم لاستعادة لغتهم العربية منذ اليوم الأول للاستقلال حين كانت الفرنسية هي اللغة المستعملة في كل المجالات، في المكاتب، وفي المدارس، وحتى في البرلمان. ثم لم تمض إلا ثلاث وعشرون سنة حتى كانت العربية قد عادت من منفاها لتحتل مكانها في الإدارة، وفي التعليم، وفي الثقافة، فظهر مفدى زكريا الشاعر، ورشيد بوجادرة الذي انتقل في أعماله القصصية من الكتابة بالفرنسية إلى الكتابة بالعربية؛ لأن العربية الفصحى كما قلت هي لغة الروح التي تعيش في المستقبل كما عاشت في الماضي.
هذا النجاح الذي حققته الفصحى في الجزائر جدير بأن يكون درساً نتعلم منه كيف نحمي لغتنا من المصير المخيف الذي يهددها ويهددنا معها؛ لأن الذي يفقد لغته يفقد نفسه. ذلك لأن اللغة ليست مجرد معجم ونحو، وإنما اللغة ذاكرة، ومجتمع، وتاريخ، وتراث تتمثل فيها الشخصية وتوجد بوجودها.
ومن هنا عُرِّف الإنسان بأنه حيوان ناطق. والنطق تفكير، وتعبير، وتذكّر، وتصوّر، وتخيل، وتعقّل. وبهذه الطاقات وهذه الملكات يكون الإنسان إنساناً، فإذا لم ينطق هذا الإنسان، فماذا يكون؟!
