تواجه خطةُ الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاءِ حرب إسرائيلَ على غزةَ صعوبةً بالغةً في التقدم نحو مرحلتها الثانية، ومن المرجح أن تستمرَّ هذه الصعوبة لمدة طويلة نسبياً. فقد فشلت موجة الزيارات الأميركية رفيعة المستوى إلى إسرائيلَ مؤخراً، والتي شملت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمبعوث الخاص وصهر الرئيس جاريد كوشنر، في إحراز أي تقدم. ويختلف ذلك عن المرحلة الأولى من الخطة، والمتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، والتي جرى تنفيذ معظمها بسلاسة نسبية، وإن كان بعد عامين من القسوة المؤلمة. السبب هو أن المرحلة الأولى حققت على الأقل أحد الأهداف الرئيسية لكلا الطرفين: إطلاق سراح الرهائن ووقف الإبادة.
على الرغم من الخلافات العميقة، تتَّفق جميع الفصائل الفلسطينية، وكذلك العديد من الحكومات العربية، وخاصة مصر، على أنَّ لديهم ثلاث مشكلات رئيسية مع المرحلة الثانية من خطة ترمب.
المشكلة الأولى أنَّ الخطة تعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وبالتالي تفصل المنطقتين الجغرافيتين من الأراضي الفلسطينية المحتلة - الضفة الغربية وقطاع غزة - عن بعضهما البعض جغرافياً وإدارياً. وهو ما يكرس الفصل الذي فرضته إسرائيل ضمن مسعاها لتفتيت الكيان السياسي الفلسطيني في سياق محاربتها لفكرة الدولة الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1967: الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، في المقابل يتوقع الفلسطينيون أن تكون المنطقتان تحت إدارة واحدة، أو على الأقل أن تكونا مرتبطتين إدارياً وسياسياً.
أما المشكلة الثانية فهي أنَّ الخطة تضع قطاع غزة تحت وصاية أجنبية، وهو ما يتناقض مع تطلعات الشعب الفلسطيني نحو الاستقلال وتقرير المصير، كما تعيق المسعى الفلسطيني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي تستبدل بالاحتلال الإسرائيلي سيطرةَ قوات أجنبية لا نهاية واضحة لمهمتها. بالإضافة إلى ذلك، تبدو مصر متوجسة من وجود عسكري أجنبي على حدودها، ولذلك تسعى إلى الحصول على قرار من مجلس الأمن قبل التنفيذ.
المشكلة الثالثة هي أن المرحلة الثانية من الخطة - كما اتضح من خطاب ترمب الفضائحي أمام الكنيست الإسرائيلي - تتجاهل الطبيعة السياسية لأزمة غزة، وتتعامل معها فقط كأزمة إنسانية واقتصادية. كان من الأجدى أن تتناول الخطة الأزمة باعتبارها جزءاً من الصراع السياسي الذي يتطلب حله إنهاء احتلال إسرائيل لأراضي عام 1967، بما يمنح الفلسطينيين الحرية وتقرير المصير والاستقلال.
تحاول إسرائيل تطبيق نموذجها في الضفة الغربية على غزة، مع إضافة شرط أساسي هو إقصاء السلطة الفلسطينية تماماً عن أي دور أو مسؤوليات. هذا النموذج يقوم على تقسيم المهام بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، بحيث تحتفظ إسرائيل لنفسها بالسيطرة الأمنية الكاملة وبالتحكم في استخدام الأراضي والمعابر. في المقابل، تسمح إسرائيل للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بتحمل مسؤولية الخدمات المدنية مثل التعليم والصحة والنظام العام والخدمات البلدية وما شابه. إلا أنَّ الفارق هنا أن إسرائيل ترفض منح السلطة أي دور في غزة، آملة ترك الخدمات المدنية هناك لمزيج غير محدد من الهيئات الدولية والمحلية.
يوحي تجاهل النهج الأميركي في التعامل مع الأزمة لكل من للضفة الغربية وحقوق الفلسطينيين السياسية وحل الدولتين والقيادة الفلسطينية، بأنَّ الهدف الأساسي هو مواجهة الزخم الدولي المتزايد للاعتراف بحقوق الفلسطينيين السياسية ودولتهم المستقلة. حيث بلغ هذا الزخم ذروته مؤخراً مع الموجة الأخيرة من اعترافات دول أوروبية وغربية وازنة بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، إضافة إلى حالة التضامن الدولي غير المسبوق، وما رافق ذلك من تحركات في بعض هذه الدول لمنع وصول السلاح إلى إسرائيل، التي تواجه ازدياداً ملحوظاً في المقاطعة وانسحاب الاستثمارات الأجنبية منها.
يعود الجمود الحالي، والمتوقع استمراره، إلى تجاهل إسرائيل والولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير - المعترف بهما من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة كممثلين شرعيين للشعب الفلسطيني - واستبعاد أي دور لهما في ترتيبات اليوم التالي في غزة، علاوة على استبعاد أي ترابط إداري لقطاع غزة مع الضفة الغربية، لهذا السبب لن تجد الولايات المتحدة أي جهة جادة تتولى المهام غير الأمنية في غزة، خصوصاً مع استمرار السيطرة العسكرية الإسرائيلية وهجماتها المستمرة والتي تطال كل مرة أعداد من المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وعليه، فإنَّ أي بديل آخر سيكون غير شرعي، وسيؤدي إلى التغطية على الوجود العسكري غير القانوني للاحتلال الإسرائيلي.
الدرس المستفاد من هذين العامين المروّعين في غزة هو أن تجاهل الحقوق السياسية للفلسطينيين لن يجعلها تختفي. وتجاهل القانون الدولي لن يوفر شرعية، وأنه لا يمكن استقرار نظام إقليمي بشكل «طبيعي»، بينما يعاني الفلسطينيون يومياً من سلب أرضهم ومقدساتهم، وأن استمرار التعامل مع إسرائيل كدولة فوق القانون الدولي يهدد استقرار المنطقة والعالم. كما أن إضعاف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بدلاً من تمكينهما، كما تفعل إسرائيل، لا يؤدي إلا إلى زيادة التطرف وتمكين بدائل لا تخدم أحداً.
والأهم، أن ترك إسرائيل تتصرف وفق أهوائها يقود أيضاً إلى تحولات جذرية داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، تطيح بأي أمل بحل الدولتين، وتستبدل به واقعاً آخذاً في التشكل بسرعة: دولة «أبارتهايد» واحدة تقوم على نظام فصل عنصري وعنف متواصل.
