لم نتمكن إلى اليوم من التقاط الأنفاس من أجل فهم واستيعاب ما يجري في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط منذ سنتين ونصف سنة، إذ بعيدا عن القراءة الإخبارية المثقلة بالبروبغندا وقلة المهنية، وخطابات الفاعلين في الأحداث التي تميل بصفة تلقائية نحو تمجيد الذات، ما زال الفكر السياسي الحديث لم يبلور وجهة نظر متكاملة قادرة على تفسير هذه الظاهرة، من دون أن يشيطنها من جهة، وفي نفس الوقت لا يقدمها في إطار أسطوري يضفي عليها طابعا من القداسة من جهة أخرى، فاستمرار الأحداث وتفاعلها إلى اليوم، يجعل من الصعب تقديم تفسير متكامل ونهائي لكل ما عرفته بلدان ما يسمى بالربيع العربي.
كانت البداية من حيث لم يتوقع أحد، تماما كما تقتضي الإثارة في أفلام هوليوود، تونس كانت نموذجا يحاول الكثيرون تقليده، فزين العابدين بن علي نجح في بناء تجربة اقتصادية أثارت غيرة جيرانه، أما بالنسبة للحريات وحقوق الإنسان فقد كان السجل أسود، لكن بتكلفة تحملها الاقتصاد الناشئ والشراكات الدولية المتنوعة. بصفة عامة كانت الأمور تسير بشكل عادي في ظل معارضة نمطية روتينية بدأ يدب اليأس في مفاصلها، بل إن أكثر المتفائلين من قادتها لم يكن يتصور تلك النهاية السريعة للنظام، وفجأة حصل ما حصل لكي تجد تونس نفسها في طليعة دول الربيع، وتتحول من دون تخطيط مسبق إلى نموذج يجري استنساخه في بلدان أخرى، مع استحضار كل ما تقتضيه الخصوصيات المحلية من تعديلات ضرورية على ذلك النموذج، فكانت التجربة المصرية الأقرب إلى التطابق معها، بينما كانت باقي التجارب في ليبيا واليمن وسوريا مختلفة تماما، لكن القاسم المشترك كان هو الكلمتين السحريتين «الربيع العربي» كطريق وحيد لإدراك الديمقراطية في تلك الدول. الطريق إلى الديمقراطية لم يكن دائما طريقا سالكا، وتجارب الانتقال إلى الديمقراطية من فرط تعددها وتنوع مساراتها، كانت عصية عن التنميط، وهو ما يعني أن شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم يدشنون تجربتهم الخاصة، بكل ما تحمله من تحديات وفرص، ومن مآس وإحباطات ومخاطر إصابة أجيال باليأس من بزوغ فجر الديمقراطية الذي جرى انتظاره طويلا.
هل كان أحد ما يتوقع السيناريو الذي عاشته كل من تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا؟ ربما نعم وربما لا، والأرجح أن الأحداث فاجأت الكثيرين، سواء بسرعتها أو من جهة توقيتها وأسلوب تحققها. وإذا كان من المنطقي أن تكون أي ثورة تتسم بطابع المفاجأة، إذ إن الثورات ليست حفلات عشاء يحضرها الناس بدعوات ويمضون إليها بربطات العنق وأجمل الثياب، لكنها في نفس الوقت ليست بتلك العفوية التي يحاول البعض أن يصفها بها، ومرد مقاومة هذا التوصيف الحالم هو ما تدفعه في وجهنا كثير من الكتابات والشهود والوقائع، وكلها تؤكد أن ما جرى طبخ على نار هادئة، واستند إلى واقع مؤلم للشعوب وسط انتظارية قاتلة من نخب أنهكت جراء سنوات من الصراع مع أنظمة عرفت جيدا كيف تجعل من كراسي الحكم، أكثر «النباتات» المعمرة، فكان الربيع عنوانا جميلا وجذابا وكانت الديمقراطية غاية لم يتفق حولها كل من تجاور بالكتف في الميادين والساحات، فحين انقشع غبار الأحذية العسكرية والأمنية، اكتشف الجميع أنهم شاركوا في حفلة تنكرية جماعية، وكان المشهد المصري أقرب إلى هذه الصورة من غيره من المشاهد، فمن صور ميدان التحرير في يناير (كانون الثاني) 2011 إلى صور اليوم، يتضح كيف أن الفرقاء في الوطن الواحد، «اتفقوا» فقط حول إسقاط الأنظمة القائمة، لكن من دون امتلاك حد أدنى من التوافق حول نموذج الدولة الجديدة، وعن أي مضمون يجب منحه للديمقراطية، عند لحظة تحولها من شعار، إلى آلية للحكم، فالإخوان مثلا، على رأي حمدين صباحي، نسوا أن الديمقراطية ليست فقط وسيلة للوصول إلى الحكم، بل وسيلة للحكم.
هل كان ما نشهده اليوم من فوضى واضطراب وغموض أمني وسياسي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط حتميا؟ الجواب بكل تأكيد هو لا، فالقيادات الجديدة تتحمل كامل المسؤولية فيما وصلت إليه هذه البلدان من عدم استقرار يدفع بكثير من المواطنين البسطاء إلى الترحم على أيام الأنظمة السابقة، إذ هي على الأقل كانت تضمن الاستقرار.. لكن مَن مصلحته أن ينزل بسقف مطالب شعوب المنطقة في ظرف سنتين ونصف سنة، إلى هذا المستوى؟ لماذا خطت هذه البلدان بسرعة فائقة نحو انتخابات تنافسية لم تكن مؤهلة لها لا سياسيا ولا أمنيا ولا اقتصاديا ولا ثقافيا؟ هل كان طبيعيا المرور ببلد مثلا غابت فيه مؤسسات الدولة لمدة واحد وأربعين سنة كاملة مثل ليبيا، دفعة واحدة إلى انتخابات بقوائم وأحزاب؟ هل كان من الصواب مثلا في مصر خوض انتخابات مجلس الشعب في ظل مشهد سياسي وشعبي وحزبي ما زال في وضع التشكل، فباستثناء جماعة الإخوان التي كانت قد شاركت نظام حسني مبارك في انتخابات مجلس الشعب، لم تكن باقي القوى السياسية الصاعدة بعد 25 يناير جاهزة لخوض غمار الانتخابات، وهو ما يعني أن جهة ما، كانت تفضل الإخوان عن غيرهم، والنتيجة يعرفها الجميع بما لا نحتاج إلى التذكير به. أما في تونس فقد تحول المجلس الوطني التأسيسي الذي مضى التونسيون إلى انتخابه لوضع دستور جديد للبلاد ورسم ملامح تونس الجديدة، إلى بؤرة لتوزيع السلطات الثلاث في الدولة وللتدبير اليومي لشؤون التونسيين وسط تجاذبات أساسية، ضاع معها الاختصاص الأصلي للمجلس الوطني التأسيسي، فتحول الحديث من بناء الدولة الجديدة، إلى إسقاط المجلس الوطني التأسيسي وكل ما صدر عنه وخصوصا «الترويكا» التي تمثل التحالف الثلاثي الذي يضم حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات..
بل ليست هناك آجال لإنهاء العمل الأساسي للمجلس الوطني التأسيسي، والجميع متوجس من الانتخابات ويحاولون ربحها قبل إجرائها، بنوع من التقاطب الحاد.
إن الربيع في بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، طرح من الأسئلة أكثر بكثير مما قدم من إجابات، أو إن صح التعبير أعاد بناء نفس الأسئلة التي راودت التجارب السابقة لشعوب المنطقة منذ الثلث الأول من القرن الماضي، والتي إن كانت قد انتفضت، فمن يأسها وعجزها وأنها لم تكن بالضرورة على نفس خطى نخبها التي كانت تنشد الحريات وديمقراطية الانتخابات والوصول إلى الحكم، فالمسارات الجديدة للربيع، يجب أن تجرب الابتعاد بصفة سريعة عن منطق الانتخابات التنافسية، وترسخ بدلا عنها ثقافة توافقية تضع الوطن الواحد فوق كل الاعتبارات، وتعد الانتخابات في اللحظة الآنية مجرد تمرين جماعي على الديمقراطية.. إذاك فقط يمكن الحديث عن الربيع.
8:18 دقيقه
TT
أسئلة الربيع والديمقراطية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
