د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

اليوبيل الذهبي

استمع إلى المقالة

تخوننا الذاكرة أحياناً كثيرة... نتذكر الحادثة، لكننا ننسى أسبابها وتفاصيلها. لذا إذا عدنا بالذاكرة 5 عقود، حتى 13 أبريل (نيسان) عام 1975؛ يوم الحادثة المشؤومة: «بوسطة عين الرمانة»، فإننا نرى أن كل ما حدث تسبّب في حرب أهلية بلبنان استمرت 15 عاماً، وما زالت ذيولها تَظهر وتطلّ علينا بأشكال مختلفة من حين لآخر.

أسباب كثيرة أدّت إلى الحرب الأهلية اللبنانية؛ أهمها الأسباب الطائفية، التي، وبكل أسف، ما زالت تنخر في جذور لبنان بشكل علني أحياناً، وبشكل خفي معظم الأحيان. فالطائفية هي نقطة الضعف في هذا البلد الصغير الذي، مِثل «الفسيفساء»، يضم 18 طائفة متعدّدة الاتجاهات والولاءات. وقد وصفه القديس البابا يوحنا بولس الثاني بـ«لبنان الرسالة»، أي رسالة للعالم أجمع بسب تنوّع طوائفه وثقافاته وانفتاحاته على العالم.

50 عاماً مضت على الحرب الأهلية في لبنان، تاركة خلفها اضطرابات أمنية وتحوّلات جيوسياسية ألقت بظلالها على الاقتصاد والقطاع المالي، فقد شهدت الليرة اللبنانية انهيارات متكررة أمام الدولار الأميركي، رافقتها أزمات مصرفية ساهمت في تدهور مستوى المعيشة.

تسلّلت المؤامرة عبر نقاط الضعف في لبنان، وهي «الطائفية» ومسائل ثانوية أخرى شكلت على الدوام تربة خصبة لحرب أهلية بلغت خسائرها نحو 150 ألف قتيل... وعادت إلى وجود عوامل داخلية؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية، جسّدها انقسام بين مطالب المسيحيين ومطالب المسلمين؛ وعوامل إقليمية محورها قضية المقاومة الفلسطينية والكفاح المسلّح وخطر التوطين؛ وعوامل ومصالح أجنبية، أوروبية وأميركية، كانت المحرّك الأول والمساعد لبداية الحرب الأهلية داخل البلاد واستمراريتها، بواسطة أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبنان.

وبما أنني قد سبق أن كتبت مقالاً عن الحرب الأهلية اللبنانية وأسبابها، لذا؛ فسأنتقي بعض المقاطع التي تتحدث عن الوضع الاقتصادي في تلك الفترة:

قبل الحرب الأهلية، امتاز لبنان بعصر ذهبي وازدهار لافت، ولُقّب بـ«سويسرا الشرق»؛ بسبب سريّته المصرفية وموقعه الجغرافي المميّز الذي يربط بين الشرق والغرب، وجمال طبيعته، وتعدّد وتنوّع أديانه وثقافة أبنائه وعاداتهم. وكان المستوى المعيشي عالياً، ودخلُ الفرد مرتفعاً، في ظل وضعٍ أمني مستقر سائد، ونظام اقتصادي معتمد على الاقتصاد الحرّ والسوق الحرّة تبعاً للقوانين... والمنافسة تنتقل في قطاعاته وأسواقه كافة مانعةً الاحتكار بشكل عام، والدولار الأميركي يوازي ما بين 2.25 و3.25 ليرة لبنانية، والبنى التحتية، من طرقات وجسور وهاتف وكهرباء، في أوضاع ممتازة، خصوصاً خلال عهد الرئيس كميل شمعون في الخمسينات.

تعود البدايات الأولى للمشكلة إلى زمن بعيد؛ إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان، بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) وسحب الأموال من المصارف الأجنبية إلى المصارف اللبنانية، قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، خصوصاً بعد تسميته «سويسرا الشرق».

لأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا تلعب دوراً مهماً في تمويل العالم بأسره؛ لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية، فكانت الرائدة والسبّاقة في مجالَي الصناعة المصرفية وصناعة الساعات، إلى أن ظهر اليابانيون على المسرح محاولين اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم «الكوارتز» بكل ما فيها من تطوير وتجديد، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية. ومُجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية، إلى أن تحرّك لبنان إلى الواجهة ليصبح منافساً خطيراً ووحيداً مهدداً لسويسرا باختصاصه وسرّيته المصرفية.

لذا؛ كان ذلك جوهر المؤامرة الأرضية ضدّ لبنان، ونظراً إلى أنّ «بنك أنترا» ورئيس مجلس إدارته كانا يتمتعان بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية عليه، مُحدثة فائضاً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في لبنان وفرنسا وأوروبا وآسيا وأميركا وأفريقيا... وغيرها، وفي قطاع التملك تحديداً؛ مما جعله أهم المؤسسات المالية في العالم.

كان الاعتقاد السائد أنه إذا دُمّر «بنك أنترا»، فإنه ليس فقط ستتوقف الودائع العربية عن التدفق إلى لبنان، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ الانهيار... تلك كانت بداية المؤامرة.

استمر التدخّل الأجنبي، واستمرّ المخطط في مؤامرته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية عام 1975، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة، حتى تمكّن من تحقيق الهدف أخيراً ونجحت المؤامرة، لكن، وياللأسف، ليس على يده، بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة، ودُمّر بالكامل تقريباً؛ مما أدّى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم.

إن ما أوجزناه قليل من كثير جداً حدث خلال الحرب الأهلية في لبنان، وكما يُقال: «تِنْذِكِر وما تِنْعَاد».