في الثاني والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام جرت العادة في لبنان على الاحتفال بعيد الاستقلال بحضور الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب. فأين لبنان الذي يرزح تحت احتلال من نوع آخر؛ يَقتل ويُهجِّر شعبه ويحرق ويقضم أرضه، منه الآن؟!
في الثاني والعشرين من هذا العام، على الرغم من كل الظروف وهذا الوضع الصعب والخطير الذي نمرُّ به، بغصّةٍ، أحيا لبنان ذكرى الاستقلال الثمانين. ولكن هل هو استقلال حقيقي أم استقلال شكليّ؟!
استقلَّ لبنان في اليوم الذي أُعلن فيه استقلاله عن الانتداب الفرنسي في 22 نوفمبر عام 1943، إلا أنه لم يكتمل إلا بعد الانسحاب الكلِّي للقوات الفرنسية من لبنان في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1946، كما هو مذكور على لوحة الجلاء في منطقة نهر الكلب، بعد أن سلّمت فرنسا بِمَنْح لبنان الاستقلال التام.
وإذا عدنا إلى التاريخ فقد شهد لبنان احتلالاً بأشكال مختلفة؛ فما لبث أن تحرَّر من مخالب سلطة السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حتى وقع في مخالب احتلال من نوع آخر على شكل انتداب، بعد اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916 التي قسّمت الدول العربية، فخضعت سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي، وخضعت فلسطين والعراق والأردن للانتداب الإنجليزي.
لكن في سبتمبر (أيلول) عام 1920، عندما أعلن المفوّض الثاني الفرنسي الجنرال هنري غورو الذي رسم لبنان الكبير بيد واحدة، قيام «دولة لبنان الكبير معلناً بيروت عاصمة لها»، رفض مسلمو «دولة لبنان الكبير» في أكثريتهم، الدولة «والكيان الوطني اللبناني» وأوضحوا عن رغبتهم في الانضمام إلى «دولة عربية» برئاسة الأمير فيصل. كانوا رافضين الانتداب وأيّ حكم لدولة أوروبية أجنبية، لذا لم تعترف «الحركة الوطنية السورية» وممثلوها في لبنان من الزعماء والسياسيين المسلمين بـ«الكيان اللبناني»، فيما طلب مسيحيو لبنان تأسيس دولة مستقلة بحماية فرنسية. وفي أثناء المفاوضات بين الحكومة الفرنسية والحركة الوطنية السورية في مطلع الستينات، وضعت فرنسا شرطاً أن تسلّم الحركة الوطنية السورية بالكيان اللبناني لقاء معاهدة تعترف فيها فرنسا باستقلال سوريا ولبنان، مما أحدث شرحاً وتصدّعاً في صفوف السياسيين المسلمين «الوحدويون» في لبنان بعد أن وافقت الحركة الوطنية السورية على هذا الشرط. وراح بعضهم يبحث عن صيغة للتوفيق بين ولائهم القومي العربي واعترافهم بالكيان اللبناني؛ ومن بينهم رياض الصلح وبشارة الخوري. وهكذا أخذت هذه الصيغة منذ عام 1930 إلى عام 1943 تتبلور بين الوطنيين الطامحين للاستقلال إلى أن تحوّلت إلى ما يُسمى «الميثاق الوطني اللبناني» الذي صاغه بشارة الخوري ورياض الصلح ووضع روحية نصّه ابن عمه السفير والنائب السابق كاظم الصلح، الذي نصح بطمأنة المسيحيين بقيام رئيس جمهورية مسيحي، مما جعل لبنان بلداً محاطاً بدول عربية، وهو يقوم على المعادلة التالية: من أجل بلوغ الاستقلال، على المسيحيين أن يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، وأن يتنازل المسلمون عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري - العربي.
في بداية الحرب العالمية الثانية، وبدعم من البريطانيين تقدمت الحكومة اللبنانية إلى المفوضية الفرنسية مطالبةً بتعديل الدستور، وذلك بعد أن أدركت سيطرة فرنسا على المراكز الحساسة. لهذا وبعد أن أصبح بشارة الخوري (رئيساً للجمهورية بعد فوزه) في الانتخابات وألّف حكومة مع رياض الصلح وأُعلن الاستقلال التام، حُوِّل مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي، وعُدَّ هذا القرار تحدياً ساخراً للمفوض السامي هيللو، وذلك بحذف عبارة «عملاً بصك الانتداب» من الدستور، فأمر بتعليق الدستور واعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء: عادل عسيران، وكميل شمعون، وسليم تقلا، وعبد الحميد كرامي، وحجزهم في قلعة راشيا. على أثرها عقد وزير الدفاع آنذاك الأمير مجيد أرسلان، ورئيس مجلس النواب صبري حمادة، والوزير حبيب أبو شهلا، اجتماعاً مصغّراً في قرية بشامون في جبل لبنان وألّفوا حكومة مؤقتة عُرفت بـ«حكومة بشامون» ورُفع «العلم اللبناني الجديد» الذي تكوّن من ثلاثة أقسام: الأحمر، والأبيض، وفي الوسط شجرة أرز خضراء ضمن الأبيض. وهكذا نال لبنان استقلاله في 22 نوفمبر بعد نضال طويل. أصبح بلداً قوياً له كيان وجمهورية معترف بها دولياً، وشارك في تأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945 وجامعة الدول العربية 1945.
الوجود الاستعماري لفرنسا كرّس الطائفية والمذهبية في البلاد وجعلها الأساس لنظام سياسي لبلد ناشئ، وعندما رحل ترك وراءه إرث بذور الانقسامات والخلافات التي ما زالت تنخر الكيان اللبناني وأبناء الوطن الواحد. لن يكون لبنان وطناً حراً مستقلاً واحداً موحداً ولجميع أبنائه إلا بالوحدة الوطنية، وأكبر دليل على ذلك أنهم نجحوا ونالوا استقلالهم بعد أن توحدوا، إسلاماً ومسيحيين، في وحدة وطنية تجلّت في «الميثاق الوطني».
إن ما عاشه لبنان من اقتتال وحرب أهلية طواه اتفاق الطائف الذي رعته السعودية عام 1989 والذي أرسى أسس النظام الحالي. لكن لبنان ما زال غارقاً في صراعات وانقسامات طائفية وسياسات وارتباطات بمحاور إقليمية ودولية، على الرغم من فترة الحرب التي نعيشها اليوم، التي برهنت وتبرهن يومياً على وحدة الشعب والتفاف بعضه على بعض.
عيدٌ... بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟!