د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

العالم بين قوة القانون وقانون القوة

أستمع لملخص

مَن أراد أن يفهمَ ما يجري في النظام العالمي الحالي فليتوقف عند مجريات وبيان قمة العشرين الأخيرة، التي عقدت في ريو دي جانيرو؛ فالمسلمة التي يمكن أن نخرج بها هي أن الانسداد السياسي والخلافات والانقسامات مِن سمات البوصلة المعطوبة التي تحدد الاتجاه بالنسبة للبيئة الاستراتيجية الدولية، وهذا ما يقوي الغموض والمجهول واللايقين والتوجس في النظام العالمي الحالي، ويجعل من مسألة أنسنة العلاقات الدولية أمراً صعباً؛ لأنَّ إنجاحَها يجب أن يتم من خلال إصلاح المؤسسات الدولية مثل «الأمم المتحدة» و«صندوق النقد الدولي» التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ما زالت تسير بالفاعلين أنفسهم بالقوانين المجحفة نفسها، وبالمصالح نفسها.

تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه عن ضرورة حوكمة دولية جديدة، بمعنى أنَّ العالم يجب أن يسيّر أموره بفاعلية وبمردودية وبصوت واحد؛ والتقى صوته مع ما تُنادي به دول الجنوب الشامل؛ وهذا يتطلَّب من الفاعلين الدوليين الإقرار الرسمي بفشل المنظمات الدولية في حل المشاكل الدولية والبدء في عملية الإصلاح؛ ولكن هل هذا ممكن؟ بالنسبة للشق الأول، هناك إجماع على أن هاته المؤسسات أصابها الفشل؛ ولكن الشق الثاني يستحيل تطبيقه في ظل الفاعلين الدوليين الحاليين، ونوعية الصراعات الدولية الحالية التي لا تبشر بخير، ويكفي وأنا أكتب هاته الأسطر سماع استهداف أوكرانيا العمق الروسي بصواريخ أميركية بعيدة المدى، من طراز «أتاكمز»، وتلويح روسيا بالردع النووي بعد تعديل العقيدة الاستراتيجية والنووية لتشمل كل تهديد يأتي من دولة غير نووية ومن حلفائها الذين يملكون السلاح النووي.

طالب الرئيس الفرنسي في قمة العشرين بخلق مقعدين دائمين جديدين في مجلس الأمن، الأول يمثل أفريقيا، والثاني أميركا اللاتينية؛ وهذا كلام منطقي، ولكن تحقيقه حالياً من باب المستحيل؛ لأنَّه يبقى رهيناً برغبة الدول الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة وروسيا والصين؛ فهاته الدول مجتمعة ستظل الركائز الأساسية لأي رغبة في الإصلاح، كما أنه يبقى رهيناً بالرغبة المشتركة لدول الجنوب واجتماعها على البلدان التي يمكن أن تمثلها بصفة دائمة داخل مجلس الأمن.

وحتى عمل الأمناء العامين للأمم المتحدة يبقى محدوداً وإدارياً صرفاً؛ وهؤلاء دائماً ما يكونون حبيسي الصراعات والتناقضات داخل مجلس الأمن... وجميعهم يعرفون اختصاصاتهم المسطرة في ميثاق الأمم المتحدة، وأخرى غير المكتوبة التي يجب أن تطبق في كل الظروف والأزمنة في ظل خطوط حمر رسمتها القوى الدولية لعمل الأمانة العامة وللمنظمة بأسرها... الإصلاح مسألة صعبة وما يجري في العالم من أحداث دامية وأزمات متتالية يكون علاجها بين القوى العظمى خارج الأمم المتحدة، وليس داخل هاته المنظمة، هاته هي الحقيقة المرة.

كما أن إصلاح مؤسسات النظام الدولي وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، يبقى أيضاً رهيناً برغبة القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي لا تريد أن تتخلى عن اختصاصاتها؛ فهذا الصندوق بحاجة إلى شرعية جديدة، وحوكمة من نوع آخر، ليس فقط من أجل تسهيل التفاوض، بل للتمكين أيضاً من إصلاح نظام الحصص واتخاذ القرار بشأن كيفية توزيع موارد الصندوق بشكل صحيح؛ زد على ذلك أن سياسة أميركا في هذا الصندوق انتقلت من دور «الحَكَم»، إلى دور «لاعب» يريد الانفتاح بشروطه الخاصة.

إنَّ العالم يعاني أزمة ثقة هائلة، ويعيش بين سندان قوة القانون ومطرقة قانون القوة؛ فهناك في العالم أزيد من 57 أزمة نزاع مفتوحة، وهناك أزيد من 200 من الجماعات المسلحة، وتنامي الصراعات تكلف العالم نحو 17 تريليون دولار، وهي وقائع وأرقام لم تصل إليها البشرية من قبل؛ وهاته النزاعات المفتوحة وعلى رأسها ما يجري في أوكرانيا وفي الشرق الأوسط، لم تستطع هيئات الحكامة الدولية الحالية حلها، بل تبقى رهينة مصالح القوى العظمى، التي ترسل رسلها تباعاً إلى مناطق النزاع وتكتفي بإعلانات مدروسة يظهر نفاقها عندما يتم التصويت على القرارات داخل مجلس الأمن أو عندما تسلح حتى النخاع بعض أطراف النزاع.

قانون القوة للأسف هو الطاغي فيما يجري من أحداث في النظام العالمي الحالي، وهو ما يجعل الابتسامة الغربية فيها نفاق، وفيها ازدواجية المعايير التي تخدم مصالحها، وتقوي كل يوم الخط الفاصل بين دول الجنوب الشاملة والفاعلين الكبار في النظام العالمي، بل تزيد من حدة التوتر بين القوى العظمى أنفسها.

«القوة لا تصنع الحق»، وهي مقولة تاريخية جاء بها جان جاك روسو منذ ما يزيد على قرنين ونصف القرن، ومعناها أن عوارض البطش والطغيان والتسلط والاستبداد بالقوة كاسرة من سورة الشرعية التي بها التغلب، وإذا انقرضت الشرعية أو ذبلت قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة.