في الذكرى السبعين لعيد ثورتِها المجيدة المصادف للفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني)، تحتفل الجزائر سنوياً بهذا التاريخ النّضالي المقدّس الذي يُعدّ إحدى أهمّ محطاتِ تاريخ الجزائر المعاصر، ومكمنُ قدسيتِه مرتبطٌ بكونه أنارَ الدَّربَ نحوَ نيل الجزائر استقلالَها عن الاستعمار الفرنسي الذي جثا على صدورِ الجزائريين وعاثَ في أرضها فساداً زُهاء قرن واثنتين وثلاثين سنة، استقلال تطلّب من شعبِ الجزائر الدَّفعَ بالغالي والنفيس، وهذا عكسته تضحياتٌ جسامٌ ناهزت المليون ونصفَ المليون شهيد خلال سبع سنوات ونصف السنة من الكفاح المسلّح، في ملحمة ثورية تعدّت كونها جزءاً من السياق التاريخي الوطني وظرفيته لتكونَ مرجعية لكل الشعوب المتطلّعة للتحرّر من نيرِ الاستعمار والاضطهادِ في مشارقِ الأرض ومغاربها، تجلّي ذلك، وما زال، في مقامِها كنموذج ثوري قابل للمحاكاة ضمنَ موجة التحرّر العالمي، خصوصاً الأفروآسيوي منه الذي أخذ منحى متصاعداً خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في هذا الصَّدد ظلّتِ الجزائرُ وفية لمن ساندها خلال ثورتها، بل إنَّه ذاتُ الوفاء الذي تجاوز نمطيته الرمزية لدى الأجيال وفي الإدراك المجتمعي العام؛ نحو بلوغه مصافَّ أحدِ أهم محدّدات العقيدة الدبلوماسية الجزائرية. محدّدات ظلّت وما زالت راسخة ضمن ثوابت العلاقات الثنائية الخارجية للجزائر التي يصعب تجاوزُها تحت أي طائلٍ وظرف كان، وضمن هذا التصنيفِ والتوصيف تقع علاقاتُ الجزائر بالمملكة العربية السعودية، علاقات شكّل البعدُ التاريخي فيها إحدى أهمّ المرجعيات الثابتة التي رسمت معالم الثنائية الأزلية المتميزة؛ بمحدّدات ثابتة وراسخة صمدت في وجهِ حالات الفتور النّسبي الذي اعترى أحياناً هذه العلاقات؛ كنتيجة لسياقات سياسية ظرفية لا تعكس بتاتاً جوهرَ العلاقات الثنائية بين اثنتين من كُبرى الدول العربية أثبتت الأحداثُ والوقائعُ حتمية تطوير العمل المشترك بينهما؛ على النحو الذي يعكس تاريخ وراهن ومستقبل العلاقة بين الشعبين وقيادة البلدين، والمصالح المشتركة التي تجمع بينهما في شتى المجالات وعلى أكثر من صعيد، وبما يُفضي لتعزيز فرص النهوض بالشراكة المتبادلة بين الطرفين.
موقف المملكة العربية السعودية المساند للثورة الجزائرية لطالما شكّل وما زال يشكّل مرجعية ورافداً مهماً لتجاوز حالات الفتور المؤقت. فالدعم السعودي للثورة التحريرية الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي منذ أيامها الأولى، الذي كانت الثورة في أمسّ الحاجة إليه مسّ كلَّ أنواع الدعم الممكنة من السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية المرتبط بتدويل القضية الجزائرية كقضية تحرّر في الأمم المتحدة، إلى الدعم المالي الذي ساهم في تمويل الثورة ونشاطاتها، إلى الدعم الثقافي الذي ساهم في تعزيز الهوية الجزائرية والحفاظ عليها من الاستغراب؛ استغراب لم تدّخر فرنسا الاستعمارية جهداً لتحقيقه ترسيخاً لمنطقها الاستيطاني ضمن حلمها بـ«جزائر فرنسية»؛ حيث كانتِ المساهمة السعودية في توفير المناخ اللازم لبعث الحركات الإصلاحية التي قادها ثلّة من خيرة علماء الجزائر من أمثال عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ممن وجدوا في جوار الحرمين فرصة لبعث أفكارهم، الذين أخذوا على عاتقهم التأسيس لمشروعٍ إصلاحي شامل تحت مظلة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مشروع كانَ قد مهَّدَ الطريق مساهماً في بزوغ نور ثورة الفاتح من نوفمبر 1954.
لا يعدّ هذا سوى غيضٍ من فيض مما تعلّق بالمواقف الحاسمة من طرف المملكة العربية السعودية التي شكّلت سنداً ثابتاً للثورة الجزائرية، في ظروف استثنائية منذ بدايات الثورة، وهي المرحلة التي عادة ما تكون مرحلة تردّد من طرف الفواعل الإقليمية والدولية التي تكون في حالة من عدم اليقين والترقبِ والتشكيك قبل اتخاذ الموقف اللازم، إلا أنَّ المملكة كانت من الدول السبَّاقة في اتخاذ قرار مساندة الثورة الجزائرية جهراً لا خفية، رغم كل العراقيل لهذا النهج السعودي يومها، ومن المواقف التاريخية التي تُبرز هذا السند السعودي للثورة الجزائرية موقف الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تزامنت فترة إمارتِه لمنطقة الرياض مع الثورة التحريرية في الجزائر، وذلك عندما قاد شخصياً حملة التبرعات المالية للثورة الجزائرية، لتبقى مقولة: «أنتم لستم جزائريين أكثر منّي... والقضية الجزائرية مقدسة تسمو عن القوانين والتشريعات التي وجب تعطيلها، إن هي وقفت في وجه الجهاد في الجزائر»، التي قالها الملك سعود بن عبد العزيز ثاني ملوك المملكة، خلال استقباله وفدَ الحكومة الجزائرية المؤقتة بقيادة فرحات عبّاس في السادس من مارس (آذار) سنة 1959. تبقى بمثابة «الجامع الوافي» الملخّص لمسيرة مساندة المملكة العربية السعودية للثورة الجزائرية.
بعد استقلال الجزائر في 5 يوليو (تموز) 1962، شهدت العلاقات الجزائرية - السعودية نمواً مطرداً انطلاقاً من الخلفية السابقة المرتبطة بوقوف المملكة كظهير مساند للثورة التحريرية. في دافعية، رسمت من خلالها هذه «المرجعية التاريخية» معالم «العقيدة السياسية» القائمة على أسس أزلية راسخة يصعبُ من خلالها تجاوز الحد الفاصل بين تحوّل «الاختلاف» إلى «خلاف»، في إطار ثنائية العلاقة بين البلدين، وبالتالي حصر اختلاف الرؤى والمواقف في المستويات الدنيا وإدارته بحكمة تعكس تعدّد الآراء لا صراع الإرادات.
وبين تجاذبات السياسة وطموحات الاقتصاد؛ أين تسير العلاقة؟ وما المطلوب لتعزيزها؟
رغم ما يزخر به مناخ العلاقات الثنائية الجزائرية السعودية من فرص لتعزيز وترسيخ التعاون بين الدولتين، فإنَّ المشهد الراهن يفتقر إلى ترجمة هذه الفرص على أرض الواقع بشكل يتناسب مع الطموحات المتبادلة، رغم كل الجهود المبذولة، وهو ما يستدعي إعادة قراءة لديناميات هذه العلاقة انطلاقاً من حدود التوافق والاختلاف بين ثنائية «الواقع والمأمول» فيها. حتى الارتقاء إلى ما هو مرجو منها، وإن كان للسياسة وتوازناتها كبير الأثر على مسار العلاقة، على غرار الموقف من ملفات إقليمية معينة. إلا أنَّ الحرص على إيجاد البديل أمر حتمي. ولا يوجد ما هو أكثر واقعية من الاقتصاد، والاستثمار، والتجارة. للعب هذا الدور الدافع نحو بناء شراكة استراتيجية قائمة على أسس التعايش مع المختلَف حوله، لصالح ما هو متوافَق عليه.
التصاعد المتواتر كمّاً وكيفاً الذي شهدته الزيارات المتبادلة لمسؤولين سامين من البلدين في السنوات الأخيرة يعكس في أحد أهم مضامينه وأوجهِ تفسيره طموحاً متبادلاً للنهوض بالعلاقات الثنائية، فالسعودية كانت أولَ وجهة خارجية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في 26 فبراير (شباط) 2020، دامت 3 أيام، بعد أسابيع قليلة من تنصيبه رئيساً للجمهورية، وقبل ذلك كانت الجزائر وجهة لزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2018 دامت يومين، وكلتا الزيارتين تضمنت وفوداً سامية، وعلى جميع المستويات؛ ما عكس رغبة دفينة لدى الطرفين نحو التقارب والتعاون. أمَّا على المستوى الوزاري، خصوصاً وزراء الخارجية ووزراء التجارة والطاقة، فقد جرى كثير الزيارات واللقاءات المتبادلة بين الطرفين، فضلاً عن عشرات اللقاءات التشاورية بين وفود اللجان والمجالس المشتركة بين البلدين، إلى جانب تلك المتعلقة بفواعل غير حكومية، كرجال الأعمال والمستثمرين والجمعيات والمنظمات الأهلية وغيرها.
أما عن الاقتصاد ورهانات بناء شراكة استراتيجية بين البلدين، فلا يختلف اثنان على أنَّ الاقتصاد سيظل أحد الروافد الحيوية للنهوض برهانات بناء شراكة استراتيجية جزائرية سعودية، وفق أسس براغماتية بعيداً عن تجاذبات السياسة. ورغم أنَّ هذا المسار بحاجة إلى توفر إرادة سياسية تمهيدية، فإنَّ الثابت أنَّه المسار ذاته الذي من الممكن اعتماده لتجاوز حالات عدم التوافق السياسي بأقل التكاليف، خصوصاً في ضوء تجارب أخرى للشراكة أثبت فيها البناء البراغماتي نجاعته في تفادي تعكير صفو العلاقات السياسية بين الدول، أو على الأقل لجمها عن الوصول لمستوى التأزم، والعلاقات الجزائرية السعودية ليست استثناءً عن هذا المُعطى الذي يكاد يُصبح ثابتاً من ثوابت العلاقات الدولية الراهنة.
على هذا النحو أعطت قيادتا البلدين أهمية بالغة لوضع أسس شراكة اقتصادية واستثمارية بين البلدين تمَّ خلالها توقيع أكثر من 30 اتفاقية بين الدولتين، تُغطي معظمها مجالات الاقتصاد والتجارة والثقافة والأرشيف، وفق ما أدلى به السفير الجزائري الأسبق لدى المملكة الدكتور محمد علي بوغازي لصحيفة «الشرق الأوسط» التي تصدر في لندن، وقد كان من أبرز مخرجات جهود التعاون بين الطرفين في هذا المجال تأسيس الشركة المختلطة للاستثمار، ومجلس رجال الأعمال المشترك، فضلاً عن اللجنة الجزائرية السعودية المشتركة المنعقدة بشكل دوري منذ نحو العقدين؛ ما من شأنه أن يفتحَ البابَ أمام عهد جديد لتكثيف وتوطيد علاقات المستثمرين ورجال الأعمال من البلدين.
مصاف آخر يفتح الباب أمام تعزيز فرص النهوض بالشراكة الاقتصادية والتجارية بين البلدين، انطلاقاً من حجم المزايا والضمانات التي وفّرها قانون الاستثمار الجديد في الجزائر، من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير متطلبات تحسين مناخ الاستثمار؛ الأمر الذي يعدّ خطوة نحو بناء استراتيجية شاملة لاستقطاب الاستثمارات السعودية في القطاعات الواعدة التي تصبّ في مصلحة البلدين، على غرار قطاع الطاقات المتجددة والاقتصاد الأخضر الذي، وبالنظر للمعايير والإمكانيات المشتركة بين الطرفين، فإنَّه يُعدّ أحد القطاعات المُعوّلِ عليها للنهوض بالشراكة الاستراتيجية بينهما، إضافة إلى قطاعات أخرى من قبيل قطاع الطاقة والمناجم والتعدين (الزراعة والمياه والبيئة) الصناعة الصيدلانية - السياحة والثقافة والشؤون الإسلامية - النقل والإسكان والتعمير - التخطيط والإحصاء - التعاون المصرفي والمالي وغيرها من القطاعات التي أصبحت من أولويات برامج السياسة العامة في الدولتين.
واللافت أنَّ موضوعَ النهوض بالتجارة البينية بين الطرفين قد أصبح أولوية للقيادة العليا للبلدين، وهذا بالنظر لطبيعة ومستوى اللقاءات الثنائية في الآونة الأخيرة، وآخرها قمة وزيري تجارة البلدين في الرياض، شهر نوفمبر الماضي، والوفدين المرافقين لهما؛ حيث تم خلال هذه القمة التأكيد على أهمية تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية وبناء الشراكات مع القطاع الخاص، واستكشاف والتعريف بفرص التعاون الممكنة، وتعزيز الآليات اللازمة لذلك، على غرار المشاركة الفعالة في المعارض التجارية وتبادل الزيارات وتقليل القيود الجمركية، وتسهيل إجراءات التبادل التجاري، الذي، وفقاً لكثير من التقارير الصادرة عن الجهات السيادية في البلدين، بلغ زُهاء 3.4 مليار دولار (12.6 مليار ريال سعودي) خلال الفترة الممتدة فيما بين سنتَي 2022 و2018؛ حيث تصدرت المنتجات المعدنية (وقود وزيوت) صادرات الجزائر نحو السعودية بنسبة تجاوزت 80 في المائة من إجمالي هذه الصادرات، في حين تصدرت المنتجات الصناعية البلاستيكية أو ما يُعرف بـ«اللدائن» صادرات المملكة العربية السعودية نحو الجزائر بنسبة قاربت 75 في المائة من إجمالي هذه الصادرات.
الاعتماد المتزايد على عنصر «التنمية» كمحدد رئيسي ضمن محددات السياسة الخارجية السعودية
يُعد حافزاً إضافيّاً من أجل تعزيز فرص التعاون الاقتصادي والتجاري بين الجزائر والسعودية، انطلاقاً من هذا التوجه؛ ما سيعطي دافعاً للارتقاء بالعلاقات الثنائية للمصاف الذي تبتغيه تطلعات الطرفين، وهو أمر تفرضه التحولات الدولية الراهنة التي من المنتظَر أن تشهد اعتماداً متزايداً على البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية، بعيداً على تجاذبات السياسة وسياسة المحاور التي زادت حدتها في ظل المخاض الذي يشهده النظام الدولي والتغيرات الجارية التي تدفع نحو ولادة نظام دولي آخر مختلف يكون فيه للتكتلات الإقليمية دور بارز. ولا يوجد ما هو أكثر من العلاقات الصينية الغربية للاستدلال على هذا الطرح. فرغم تصاعد حدة التنافس الصيني الغربي، ووقوفه على مشارف الانتقال من حالة التنافس إلى حالة الصراع، فإنَّ الارتقاء بعلاقات الاعتماد الاقتصادي والتجاري المتبادل ما زال الأسلوبَ المفضل للطرفين لإدارة معادلة التنافس بينهما. والعلاقات الجزائرية السعودية ليست بالنموذج الاستثنائي الخارج عن هذا السياق، الذي تدفع به التحولات الدولية الراهنة.
التنسيق حول القضايا السياسية المشتركة - مدخل آخر للارتقاء بالتعاون الثنائي بين البلدين
كثيرة هي القضايا الإقليمية والدولية الراهنة، التي من الممكن استغلالها لزيادة آفاق التنسيق السياسي بين الطرفين، بداية بالقضية المحورية قضية كل العرب والمسلمين (القضية الفلسطينية)، خصوصاً في ضوء حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة، والمنتظر أن تتوسع مخاطرها الإقليمية، في حال توسع نطاق الحرب لدول الجوار، مروراً بالواقع المتأزم في كثير من ثنايا النظام العربي الرسمي ومحيطه الإقليمي، بداية بمخاطر فشل الدولة في ليبيا والسودان واليمن والصومال، إلى الأزمات في المنطقة. فضلاً عما يحمله مركب الأمن الإقليمي من تهديدات عابرة وغير متماثلة أصبحت من مهدّدات الأمن القومي والوطني للدولتين، وهي كلها ملفات تستدعي رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني المتبادل بين الدولتين، على النحو الذي ينعكس إيجاباً على مصالحهما المباشرة، خصوصاً مع توفر ثوابت مشتركة للعقيدة الدبلوماسية في السياسة الخارجية للبلدين، ساهمت في مواقفهما المشتركة اتجاه عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعدم التفاعل مع الكيانات الموازية التي تهدّد وجود الدولة ومؤسساتها السيادية وترهن منطقها وهيبتها في بعض الدول العربية الشقيقة، وهو ما ساهم بدوره في بناء رؤية متقاربة بين الدولتين لكيفية تسوية هذه المعضلات والأزمات على النحو الذي يمنع التفكّك «البُنيوي - المؤسساتي» في هذه الدول.
إلى جانب ذلك، يبرز الدور المحوري للطرفين الجزائري والسعودي تحت مظلة تكتلات إقليمية عربية وإسلامية، من قبيل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وتوافق الرؤى الإصلاحية بين الطرفين لهذين الكيانين من أجل تفعيل دورهما وحضورهما إقليمياً ودولياً؛ ما أعطى زخماً آخر لضرورة التنسيق بين الدولتين انطلاقاً من هذه الرؤية المشتركة اتجاه إصلاح هذه الفواعل الإقليمية، والدفع نحو تطوير العمل العربي والإسلامي المشترك.
السياق الدولي الراهن في ظل الأزمات التي تعصف بالنظام الدولي، بداية بالصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، وليس نهاية بتزايد حدة التنافس الصيني الأميركي، ورغم أنَّه مُعطى ثابت وطبيعي عادة ما يكون السمة البارزة لمراحل التحول التي يمر بها النظام الدولي في كل عصر، فإنَّ الثابت هذه المرة أنَّه زاد من تحديات معركة الاستقطاب الذي تتعرَّض له كثير من الفواعل الإقليمية التي لها دور وثقل في محيطها الإقليمي، والجزائر والمملكة العربية السعودية أحد هذه الفواعل المعنية بهذا الاستقطاب، وضع آخر أثبتت التطورات إمكانية استغلاله لرفع مستوى التنسيق بين البلدين، ورغم تبادل الأدوار الجاري بين الطرفين من قبيل الدعم المتبادل في المحافل الدولية، على غرار دعم الجزائر لترشح المملكة لتنظيم معرض «إكسبو 2030» ودعم السعودية لعضوية الجزائر غير الدائمة في مجلس الأمن، إلى جانب التنسيق العالي والتاريخي بين الطرفين في تجمعّي «OPEC» و«OPEC +» والحفاظ عليه في وجهِ الضغوط العالية على سوق الطاقة العالمية، كأحد مخرجات الصراع الدائر في أوكرانيا، فإنَّ الواضح أنَّ أفق التنسيق بين الطرفين أكبر بكثير مما تم تحصيله لغاية الآن، وهذا بالنظر للمعطيات الدولية والإقليمية الراهنة، فضلاً على الإرادة السياسية المشتركة التي حتماً سترفع النسق الراهن نحو آفاق متقدمة، في حال ما إذا تُرجمت هذه الإرادة في ظلّ هذه المعطيات إلى خطط استراتيجية شاملة للارتقاء بالتعاون الثنائي بين البلدين.
ختاماً: ما يجمع الجمهورية الجزائرية بالمملكة العربية السعودية من روابط تاريخية، وفرص آنية وتطلعات مستقبلية كفيل ببناء شراكة استراتيجية مستدامة على جميع المستويات ووفق جميع الأطر، شريطة توفر الإرادة السياسية الدافعة نحو تبنّي هذا الخيار. ورغم أنَّ هذه الإرادة مرهونة في أحد أهم أبعادها بتجاوز مواطن الاختلاف الذي لم يدنُ يوماً لسمة الخلاف؛ خصوصاً ما هو سياسي منه، فإنَّ هذا المُعطى في حد ذاته قد يشكّل حافزاً للتقارب إذا توفّر البديل الذي يغلُب عليه؛ في إشارة إلى ما تم التطرق إليه آنفاً حول تغليب المحدّد الاقتصادي توازياً مع ما هو متفَق عليه سياسياً، بعيداً عن باقي مواطن النفور السياسي. وهو السبيل الأمثل والأيسر والأقل تكلفة، ولكن بمزايا ضخمة لتطوير وتعزيز الشراكة بين البلدين والشعبين الشقيقين.