هناك مشكلة حقيقية في ليبيا فيما يخص أنظمتها السياسية السابقة، فمثلاً ليس هناك إجماع على عودة النظام الملكي في ليبيا على الرغم من السمة والسيرة الحسنة اللتين تحلَّى بهما الملك إدريس السنوسي، واستقرار عهده السياسي في بداية عهده. كما أنَّه ليس هناك إجماع على الحنين إلى جماهيرية القذافي المعروف عنه جنوحه إلى الدكتاتورية والتقلبات السياسية والمجتمعية، فلكلا العهدين أنصاره ومدافعوه، ولا يكاد يغلب طرفٌ طرفاً آخر في عدده وتعداده، بل هناك فريق ثالث يحن للمستعمر الإيطالي ويرى فيه عهد بناء وإعمار، رغم تلطخ جدران مبانيه بدماء الليبيين، ولكن يبدو أنَّ من الحب ما قتل، والمؤكد أن الجميع أصبح في حالة طلاق أو تخلٍ عن عهد فبراير باستثناء من نهب من خزينة البلاد واستفاد من الفوضى.
فالأغلبية خرجت عام 1969 للشارع تهتف ضد إدريس تأييداً للتغيير في ليبيا، بعد تفشي الفساد في الحكومات المتعاقبة باعتراف إدريس الأول نفسه، حيث خطب فيهم قائلاً: «بلغ السيل الزبى»، غاضباً من فساد الحكومات العائلية، ولهذا فأغلب من كانوا يحنون لعهد إدريس هم من الأسر والعائلات الأرستقراطية وإقطاعي الأراضي الزراعية وأصحاب الأملاك، بينما غالبية الليبيين يحنون لعهد القذافي لكونه جاء من بينهم وانتشل الكثير منهم من الفقر، وحافظ على أرخص سعر لرغيف الخبز والوقود في العالم، بل ألغى ألقاب التمييز وفرض كلمة «الأخ» في جميع المراسلات الرسمية، بدلاً عن كلمة «السيد» أو «الباشا»، أما عهد إدريس فكرس للطبقية بين الناس.
وبينما يتفاخر أنصار عهد إدريس بمشروع إدريس الإسكاني، يذكرهم أنصار القذافي بإزالة حي أكواخ الصفيح في أكبر أحياء طرابلس العاصمة قبيل ثورة القذافي في سبتمبر (أيلول) 1969، ومشروع النهر الصناعي، الأمر الذي لم يجعل لفئة الغلبة بل الحيرة في المقارنة، فإدريس الذي أقام العدل على نفسه وأهله عندما أعدم قريبَ الملكة لقتله مواطناً عادياً، لا يمكن مقارنته بالقذافي الذي نصب المشانق في الجامعات والطرقات لمعارضيه دون محاكمة.
أياً كانت المقارنات بين العهدين، لكن الواقع يؤكد أنَّ العودة للماضي وتجريب المجرب وانتظار نتائج أخرى ستكون نوعاً من المغامرة، ومنها عودة الملكية بعد عقود من الزمن.
عودة الملكية في ذاتها ليست مشكلة، فأغلب الممالك في العالم هي دول مستقرة وناجحة ومتقدمة، ولكن هذه العودة في ليبيا صعبة المنال، فالمطالب بالعرش يعاني من إشكالية في أحقيته في ولاية العهد، ولم يتولَ أيَّ منصب في حياته، ولا تجربة له في إدارة البلاد.
الملك إدريس السنوسي تاريخه محبوب عند أغلب الليبيين، لأنَّه كان زاهداً في الحكم، وسبق أن قدَّم تنازله عن العرش أكثر من مرة، بالإضافة لقبوله وتسليمه بالتغيير في ليبيا عندما كان في اليونان، ولم يطالب الملك إدريس، رحمه الله، طيلة سنوات المنفى، بالعودة إلى الملكية في ليبيا، ليطالب بها اليوم من هو في الترتيب الثالث من حيث الخلافة الافتراضية.
فالسيد محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي يقول إنه «وريث» الملك الراحل إدريس السنوسي، على عرش ليبيا، رغم أنه ليس أحد أبنائه من صلبه، كما أنَّه ليس الابن الأوحد للسيد حسن الرضا الذي كان ولياً للعهد في ليبيا، وبالتالي السيد محمد السنوسي يقع في المرتبة الثالثة في ترتيب «الخلافة» المفترضة لعرش السنوسية في ليبيا، بل إنَّ شقيقه أعلن في إحدى المرات أن شقيقه محمد ليس ولياً للعهد ولا توجد وصية من والده حسن الرضا ولا بيعة له من العائلة.
التقلب السياسي والتأرجح الحكومي في بضع سنين كانت نتيجتهما تكرار تنازل الملك الصالح إدريس عن العرش، حيث يقول ئي دي كاندول مؤلف سيرة «الملك إدريس عاهل ليبيا»، في الصفحة 139، إنَّ الملك إدريس كان قليل الثقة بإمكانية دوام الملكية الوراثية في ليبيا على المدى البعيد (بسبب انقطاع نسل إدريس) وقد سعى مراراً إلى التنازل عن العرش، وهذا يؤكد أنَّ المطالبة بعودة الملكية أو الجماهيرية يجب أن تكون في إطار استفتاء شعبي عام، لا أن تفرض هوية سياسية لليبيا لمجرد الخلاص من التوهان السياسي الحالي. وإذا رغب السيد محمد الرضا السنوسي، أو حتى منافسه السيد سيف الإسلام معمر القذافي، الذي يسمي نفسه وريثاً لجماهيرية القذافي، فعليهما التوجه إلى صندوق الانتخابات، وهو الفيصل في تحديد هوية حاكم ليبيا القادم.
ليبيا اليوم في ظلّ تغييبٍ لمنصب الرئيس لأكثر من عقد من الزمان، وتغييب للهوية السياسية؛ بلا نظام، ولا توصيف سياسي لها، هل هي ملكية؟ طبعاً لا، هل هي جماهيرية؟ لا، هل هي جمهورية لا؟ إذا ما هي الهوية السياسية لليبيا اليوم التي غيَّب هُويتَها تنظيمُ الإخوان في فبراير 2011 تحت مسمى فضفاض هو «دولة ليبيا»؟ تعيش البلاد اليوم حالة فوضى سياسية وانقسام وتشظٍ سياسي غير مسبوق بوجود حكومتين وبرلمانيين لدولة واحدة.