تسعى العلوم السياسية لتكون قريبة في منهجيتها من العلوم الأساسية. وهناك من يقول إن المساحة الفكرية للعلماء في هذا المجال هي مساحة محدودة، فهم لا يلبسون بدلات طبية، ولا يداوون من الأمراض المزمنة ولا يرسلون أقماراً اصطناعية؛ ولكن مع ذلك فهم ينتمون إلى علم يتوفر على نظرياته الخاصة وعلى قواعده ومدارسه...
فعندما يتناول المتخصصون في علم السياسة مسألة السلطة السياسية، أي حكومة الناخبين داخل المجال السياسي العام، أو مجموعة من الميكانزمات التي تبلور وحدة وديمومة الحقل الاجتماعي، وعندما يتناولون مسألة الحياة السياسية؛ وعندما يتناولون مسألة الفعل السياسي، أي خطة الطريق الدالة على وجود السلطة السياسية، التي تخلق مجموعة من القرارات والعمليات المحسوسة ذات الصبغة العامة أو الإقطاعية، فإنهم لا يستطيعون تناولها بحرفية وعلمية وأكاديمية إلا من خلال أبجديات المنهجية العلمية والقواعد الدقيقة التي تعطي أرقاماً وتحدد الإشكاليات والفرضيات وتناقشها من خلال أدوات البحث المتعارف عليها...
ومن بين الأدوات التي يتكئ عليها الباحث في مجال علم السياسة هي استطلاعات الرأي؛ فكثير من أطروحات الدكتوراه التي نناقشها لطلبتنا في الجامعات العربية والغربية تكون قائمة في منهجيتها على نتائج استطلاعات الرأي في مجال التخصص المعين؛ ولكن كثيراً ما نسأل عن محدودية هاته الاستطلاعات عندما نستحضر ما تأتي به مؤسسات استطلاع الرأي كما هو الشأن في أميركا، وبالأخص في مجال الانتخابات... فمثلاً بعد المناظرة التي جمعت ترمب وهاريس، جاءت استطلاعات شبكة «CNN» حول أي مرشح يفهم بشكل أفضل المشكلات التي تواجه الأميركيين لتقول إن هاريس تفوقت بـ4 نقاط عن ترمب؛ ويمثل هذا تحولاً لصالح هاريس عما كانت عليه النتائج قبل المناظرة... وأقول هنا إن كل هذا جزئي ونسبي وليس بحقيقة مطلقة ونتيجة نهائية؛ ونحن نتذكر أن هناك مراكز استطلاعات كثيرة ووسائل إعلامية أميركية كبيرة، على رأسها «سي إن إن» و«إم سي إن بي سي»، وصحيفتا «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، كانت ترجح فوز كلينتون في الانتخابات الأميركية لسنة 2016... وبلغت هذه المنابر الإعلامية درجة كبيرة من التأكيد على فوز كلينتون، وأعدت برامج تحدثت فيها عن طبيعة رئاسة «السيدة الأولى سابقاً»، وأي نوع من التركة ستتسلمها من باراك أوباما، وكيف ستكون سياساتها الجديدة، ولكن هاته الاستطلاعات كانت خاطئة... وهذا ليس خاصاً بالولايات المتحدة، فعدم التوفيق في توقع النتائج رصد كذلك في استطلاعات الرأي حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من عدمه، إذ كانت ترجح الخيار الثاني، الأمر الذي لم يحصل...
هاته الحيرة التي يمكن أن تنتابك يمكن أن «ترطب» إذا استحضرنا خاصيات العلم الثلاث التي تطبع كل العلوم: فالعلم هو علم مركب، بمعنى أنه تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة، فربط الأسباب بالمسببات مسألة مصيرية في مجال العلوم أياً كانت، والتزام الموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه، لتكون النتائج نتائج يمكن أن تعمم وتطبق، فالعالم أو الباحث في هذا المجال يدندن حول ثلاثية الفهم والشرح والتنظير (وهنا بمعنى تعميم النتائج)، ومساحة العلوم السياسية ليست بمساحة صحافية أو ارتجالية، فلها قواعد عالمية وأبجديات رياضية على شاكلة الفيزياء والعلوم الطبيعية؛ والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أياً كانت يمكن أن تفند. فالعلم كما يقول ماكيافيل هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة، أو أن تحتكر تلك الحقيقة كما يقول إدكار موران، والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده، العالم المطلع، أما العلم الإنساني أياً كان فهو لصيق بالإنسان وبطبيعته البشرية، أي يبقى جزئياً ومحدوداً؛ أما الخاصية الثالثة فهي أن العلم هو علم منشئ، بمعنى أنَّ الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته...
فاستطلاعات الرأي ليست بحقيقة مطلقة، وإنما هي جزئية، وقد تمثل بناء على مثالنا السابق فقط آراء أولئك الذين تابعوا المناظرة ولا تمثل جمهور الناخبين بأكملهم؛ كما أن استطلاعات الرأي يجب أن تطعم بتحاليل علمية أخرى قد تفندها عندما تتوقف عند المؤسسات التي أنجزت استطلاعات الرأي هاته، وانتماءاتها السياسية ومموليها والقائمين عليها ونوع العينات التي تختارها، خاصة ونحن نعيش في حلبة صراع سياسية موسومة باللوبيات وبالأخبار الضالة والمضلة والخطابات الرنانة والشعبوية والترتيلات المدوية... لذا دائماً ما أنصح الباحثين والطلبة والجامعيين عندما يتناولون أبحاثاً علمية لدراسة إحدى الظواهر السياسية، وكي يلتزموا الحيادية والموضوعية، بالقيام باستطلاعات الرأي بأنفسهم وانتقاء العينات بطريقة ذكية وعلمية ودقيقة. ومع هذا كله، فإنَّ النتائج ستكون جزئية وليست بمطلقة.