يدرك الأردن، وهو من أكثرِ المتأثرين بتداعياتِ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزةَ، وكذلك الاعتداءات اليومية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، والاقتحامات المتكررة يومياً للمسجد الأقصى المبارك، أنَّ رئيسَ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومتَه المتطرفة لا يريدون وقفاً للحرب أياً كانت صيغ الاتفاق وأياً كان رعاتُها.
الفهم الأردني لتصرفات نتنياهو والمتطرفين في حكومته أمثال بن غفير وسموتريتش أنَّها لا تقيم وزناً لعلاقات إسرائيل الخارجية ولا لموقف المجتمع الدولي، بما في ذلك موقف الإدارة الأميركية الحالية؛ مثلما أنَّه لا يضع عودة المختطفين أيضاً ضمن أولوياته.
وعليه؛ فإنَّ سقفَ التحرك الأميركي إزاءَ الحرب على غزة والضفة الغربية هو ما سيوافق عليه نتنياهو، بدليل مبادرة الرئيس بايدن التي وافقت عليها «حماس» قبل أن يضيف نتنياهو إليها شروطاً معطلة عادت الإدارة الأميركية لتوافق على بعضها.
في كل جولة تفاوضية، ومع دخولها في كل التفاصيل، لم تحمّل الإدارة الأميركية نتنياهو علناً مسؤولية أي تعطيل.
بالنسبة لنتنياهو، فإنَّ أولويته، بل وأهداف حكومته المتطرفة، القضاء نهائياً على فكرة قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وإنَّه يفعل كل ما بوسعه لتوسيع رقعة الصراع إقليمياً حتى لو أدَّى ذلك إلى توريط الولايات المتحدة بحرب أوسع عالمياً.
استمرارُ الحرب بالنسبة للحكومة الإسرائيلية يعني استمرارَ غيابِ الصورة الحقيقية عن العالم، فإسرائيلُ التي تدَّعي أنَّها الديمقراطية الأولى في المنطقة لا تسمح لوسائل الإعلام العالمية بالدخول إلى غزة، وهي تدرك تماماً أنَّ ما رآه العالم من الدمار والآلام في غزة، لا يعادل عشرةً في المائة من الكارثة.
أدركت أوروبا متأخرةً أنَّها وقعت في فخّ نتنياهو الذي صوَّر لها هجومَ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بأنَّه خطوةٌ لاجتثاث إسرائيل. سارع زعماءُ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرُهم لزيارة إسرائيل ومدّها بالمال والسلاح، قبل أن يصلوا إلى قناعة بأنَّ استدراجَهم لدعم نتنياهو منحه شرعيةَ القتلِ الجماعي والتدمير والجرائم ضد الإنسانية.
اعترفت دولٌ أوروبيةٌ عدة بالدولة الفلسطينية وتستعدُّ إسبانيا لعقد مؤتمر الشهر المقبل لحشد التأييد ومزيد من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كذلك فإنَّ فرنسا تستعدُّ لمبادرة من هذا النوع.
المعارضة الإسرائيلية ومعها كبار جنرالات الجيش السابقون، يرون أنَّ نتنياهو صار عبئاً على إسرائيل، كذلك يهمس قادة ودبلوماسيون أوروبيون بأنَّ نتنياهو ليس عبئاً على إسرائيل فحسب، بل وعلى المجتمع الدولي.
أمَّا على صعيد الحليف الأول والأكبرِ، الولاياتِ المتحدة، فيشعر الديمقراطيون أنَّ نتنياهو صار عبئاً عليهم أيضاً، وأن هدفَه المرحلي هو استمرار الحرب حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وآماله معلقة على فوز الرئيس السابق دونالد ترمب.
يدرك نتنياهو أنَّه إذا أوقفَ الحرب فسيرى العالمُ حجمَ الكارثة، وستدفع إسرائيلُ ثمناً باهظاً من جراء جرائمِها ضد الإنسانية، وستفقد تعاطفَ أقرب حلفائها في الغرب. وسيدفع نتنياهو الثَّمنَ في الداخل.
أعود للموقف الأردني مما يجري. فالأردن يوظّف دبلوماسيتَه النشطةَ لفضح ادعاءات نتنياهو، لكنَّه في الوقت نفسِه يواصل يومياً إيصال شحناتِ الغذاء والدواء جواً وبراً إلى قطاع غزة، إضافةً إلى دور المستشفياتِ الميدانيةِ الأردنية في الأراضي الفلسطينية، وقد جهَّزَ فريقاً طبياً متخصصاً لتركيب الأطراف الصناعية بأحدث التقنيات العالمية لمن بترت أطرافهم من جراء عدوان إسرائيل على غزة، ولا سيما الأطفال.
لكنَّ الأردنَ - الذي عدّ تهجير الفلسطينيين وتغيير الوضع القائم في القدس خطاً أحمرَ - بدأ يُعِدُّ العدةَ لمواجهة حكومة نتنياهو في حال تصعيدها للأوضاع في الضَّفة الغربية.
مواجهةُ الأردن هذه المرة لن تكون دبلوماسيةً فحسب، بل إنَّ الحكومةَ الأردنية بدأت تدرس إجراءاتٍ مؤثرةً قد تعيد النظر في كثير من الشؤون السياسية والقانونية المترتبةِ على معاهدة السَّلام مع إسرائيل.
الحكومةُ الأردنية تدرس خياراتِها بعنايةٍ آخذةً في الاعتبارات علاقاتها الدولية والإقليمية. تدرك أنَّ أوروبا تتفهَّم مواقفَها، وأنَّ الإدارةَ الأميركية الحالية باتت أكثرَ فهماً لما يجري. أمَّا على صعيد الإقليم فيعيد الأردنُ حسابَ علاقاتِه حتى مع إيران والنظام السوري.