عادةً ما تبدأ الحروب بخطوة مباغتة، قد تتوقف بعدها، وقد تخرج عن المسار المرسوم لها. في 7 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وصلت الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى أعلى ذروة في تاريخ الحروب بينهما.
المفاجأة التي جرت هزَّت أعماق إسرائيل، إذ وجدت نفسها مطالبة بالرد، بعد أن فقدت المباغتة والردع معاً، وهى التي تؤمن بالحروب الخاطفة الاستراتيجية التي ورثتها عن ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين، بعد أن لملمت إسرائيل أشلاءها يوم 7 أكتوبر، كان حتمياً أن ترد بأقسى ما تصورته في الحروب العربية - الإسرائيلية، وبالطبع كان معها العالم الغربي بالكامل، وزارها الرئيس الأميركي جو بايدن في الأيام الأولى للحرب، ثم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والمستشار الألماني شولتس. وهنا كانت الرسالة واضحة، فهؤلاء جاءوا من أجل حماية المشروع الإسرائيلي، وقد تبنوا جميعاً - هؤلاء الضيوف الغربيون - النظرية الإسرائيلية عن الحرب، وآمنوا بالسردية نفسها، ونشروها إعلامياً ودبلوماسياً.
من هنا جاء الرد الإسرائيلي متخذاً مسار ذروة الصعود إلى أعلى نقطة يصل إليها، فقد هاجم قطاع غزة بشتى أنواع الذخائر والقنابل والصواريخ، مستخدماً أفظع ما في ترسانته من أسلحة، وذهبت تصريحات أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة أدراج الرياح، التي قال فيها إن يوم 7 أكتوبر 2023 جاء نتيجة للظلم الطويل الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، كما ذهبت تصريحات عاقلة ورشيدة من دول الشرق الأوسط، رأت في الرد الإسرائيلي الرهيب إيذاناً بتصفية القضية الفلسطينية، وتهجيراً للشعب الفلسطيني قسرياً، ورأت أنه بدلاً من ذروة الصعود الإسرائيلي المبالغ فيه، يجب أن يكون هناك حل جذري وشامل للقضية الفلسطينية، أعدل القضايا العالمية، والأطول احتلالاً في تاريخ الاحتلالات الحديثة، لكن الخط المتصاعد الذي اختارته إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، ذهب إلى أبعد نقطة في الفراغ، وكذلك الأطراف التي تؤمن بتنفيذ مصالحها الاستراتيجية عبر الاصطدام العسكري وحده، وقد لجأت أيضاً إلى التصاعد الذي لا يتوقف حتى وصل إلى نقطة يصعب النزول منها.
إذن كل الأطراف باتت تتعلَّق بأعلى أغصان الشجرة، غير قادرة على النزول، وليس لديها القرار. فهذه الأطراف يلفها التخبط في الرؤية، وسوء تقدير الموقف، والرغبة في فرض الإرادة والنفوذ، برغم أنها تقفز في الفراغ، بل إنها تشبه عربات إطفاء بلا ماء، وليس لديها إدراك للخطوة التالية في هذا المشهد الدامي العميق.
إن هذا الصعود العبثي في مسارح العمليات بين أطراف الحرب، جعل من المعضلة الواحدة معضلات عديدة، فقد تداخلت أطراف إقليمية ودولية، فتشابكت الخيوط أكثر فأكثر، وعندما نمعن النظر في المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بوساطة عربية وأميركية، نكتشف أنها لا تقل تعقيداً وعنفاً عن الحرب نفسها، فالجانب الإسرائيلي يصرّ على استمرار الحرب، وفي ذات الوقت يصرّ على تنفيذ شروطه غير المقبولة التي تقوم على عدم وجود دولة فلسطينية من الأساس، وقد صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرار منع قيام الدولة الفلسطينية، بالرغم من أن هذا التصويت يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وكذلك الولايات المتحدة الراعية الرسمية لإسرائيل، بينما الفلسطينيون لا يمكن أن يتنازلوا عن حق تقرير المصير، وإنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967.
ذروة الحرب وذروة المفاوضات وصلتا إلى نقطة حرجة، كل يريد أن يصل إلى نهاية، لكنه غير قادر على اتخاذ القرار الشجاع بالعودة إلى الأرض، والنزول من أعلى الشجرة التي صعد إليها دون حسابات صحيحة، أو دون امتلاك أدوات تمكنه من النزول، ومن ثم فإن دروب التعقيدات تضيق، ولم تعد مفتوحة في نهاية المطاف، هناك إصرار على النصر المستحيل الذي وضع شروطه نتنياهو، ويلقى رفضاً عارماً من المجتمع الدولي، ومن أطراف القضية، ومن داخل حكومته نفسها، فثمة انشقاق غير مسبوق في حكومة نتنياهو، وكذلك بينها وبين الشارع الإسرائيلي الذي يتظاهر من أجل توقيع هدنة، وعودة أسراه.
كما نرى أن الصعود كان سهلاً في البداية، لكن مأزق العودة هو الأصعب، فكل الأطراف غير قادرة على العودة إلى اليوم السابق لـ7 أكتوبر.
لا شك أن الصعود بلغ نهايته، لكن المأزق بات يكمن في كيفية النزول، وهنا أرى أن فكّ شفرات هذه الحالة المستعصية يتطلب قلباً شجاعاً، وعقلاً رشيداً، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، ويمنع أي تدخلات إقليمية في الشأن الفلسطيني الذي هو شأن عربي محض. فالوقت ليس في صالح المكابرة والسير في اتجاه واحد.