علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

تاريخ «أبو سليمان» مع الأسلمة

استمع إلى المقالة

ذهب عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» إلى أن المساعدات الاقتصادية والتقنية والسياسية السوفياتية التي تلقتها الحكومات العربية الاشتراكية «أفرزت بعض جوانب النظرية الماركسية وأوفدتها إلى محيط الفكر الإسلامي، وخصوصاً مفهوم حروب التحرير».

إنَّ التأثرَ بالماركسية والتأثر بالاشتراكية في العالم العربي بدأ قبل أن تتَّجه حكومات عربية إلى تبني الاشتراكية وإلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي بسنوات عديدة.

وفي ظني أنَّه حين ذهب إلى ذلك القول كان يفكّر بمصر، وتحديداً بحكومة جمال عبد الناصر التي كانت أول حكومة عربية تتبنى الاشتراكية وتتحالف مع الاتحاد السوفياتي. وكانت أول دولة عربية تلقت «المساعدات الاقتصادية والتقنية والسياسة السوفياتية». كان يفكّر بمصر، مصر التي درس فيها العلوم السياسية بكلية التجارة في جامعة القاهرة من عام 1955 إلى عام 1959 في مرحلة البكالوريوس، وأكب فيها على إعداد رسالة الماجستير «السياسة البريطانية في عدن والمحميات ما بين عام 1799 وعام 1961» من عام 1960 إلى شهر من أشهر عام 1963. فظن أنه يعرف مصر عن قرب وعن معايشة.

والذي مال بي إلى هذا الظن، المثالان اللذان أتى بهما، وهما: «حرب التحرير الجزائرية والحرب الأهلية في اليمن»؛ للتدليل على أن المفردات الماركسية حملت معانيَ مبهمة لمفهوم الجهاد، وطرح عليهما، قبل إتيانه بهما، سؤاليه العجيبين: «ولم يكن من الواضح ممن يراد التحرر؟ ولماذا؟».

حكومة جمال عبد الناصر لها دور بارز في الثورة الجزائرية، ولها يد طولى في الثورة اليمنية.

إنَّ الاتحاد السوفياتي لم يكن له صلة «اقتصادية وتقنية وسياسية»، لا بحرب التحرير الجزائرية ولا بالحرب الأهلية اليمنية. وحرب التحرير الجزائرية والحرب الأهلية اليمنية لم تقوما على مفردات ماركسية، ولم يُرفع فيهما شعار «الجهاد في سبيل الله»، ليحكم بأنَّ مفهوم الجهاد فيهما اتخذ معانيَ مبهمة. كما أنَّ اليمن لم يشهد حرب تحرير وطنية، ولا حرب تحرير شعبية، فالحرب التي عاشها هي حرب بين جمهوريين تحرريين عروبيين وملكيين إماميين محافظين.

ومع أنَّ مثال اليمن كان مثالاً خاطئاً إلا أنني سأجيب عن سؤاليه العجيبين إزاء هذا المثال بجواب واحد، هو: الجمهوريون كانوا يريدون التحرر من حكومة ملكية إمامية زيدية ثيوقراطية، بإسقاطها وبناء حكومة جمهورية عصرية تحل محلها.

أمَّا مثال الجزائر، وكان مثالاً صحيحاً، فالمراد كان تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وتأسيس دولة وطنية مستقلة ذات سيادة.

المساعدات الاقتصادية والتقنية والسياسية والسوفياتية لم تكن هي المسرب في التأثر بـ«بعض جوانب النظرية الماركسية» وبجانب من جوانبها، وهو الجانب الذي خصّه بالذكر، والذي سمّاه تسميةً مبهمة، هي: مفهوم حروب التحرير. ولا كانت هذه المساعدات مسرباً من مسارب التأثر بأي جانب من جوانب النظرية الماركسية في العالم العربي. فمسارب التأثر بالماركسية وبأي جانب منها، هو في موقع ناءٍ وبعيد عن قضية المساعدات والتقنية والسياسة السوفياتية للدول العربية الاشتراكية.

وأرجّح أنَّ حروب التحرير يعني بها حروبَ التحرير الوطنية وحروب التحرير الشعبية معاً.

حروب التحرير أشار إلى مثال لها في الجزائر، لكنَّه لم يشر إلى مثال لحروب التحرير الشعبية.

في السنوات الثلاث التي أعدَّ وكتب وأنجز عبد الحميد أبو سليمان رسالته للدكتوراه، وهي أول السبعينات الميلادية، كانت ثورة ظفار لا تزال مستعرة، ومع هذا لم يشر إليها، رغم أنَّ القائلين بضرورة حرب التحرير الشعبية لإشعال ثورة شاملة في منطقة الجزيرة العربية، اجتمعوا فيها، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحريرها، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، النظام الشيوعي الوحيد في العالم العربي.

وعلى كلٍ، فحروب التحرير الشعبية من الناحية التنظيرية ومن ناحية استلهام التجربة العملية، لم تكن مرجعيتها سوفياتية، بل كانت صينية وفيتنامية وكوبية.

وللتوضيح، فإنَّ عبد الحميد أبو سليمان خصَّ جانباً من جوانب النظرية الماركسية بالذكر، وهو جانب ما سماه «مفهوم التحرير» لأنَّه كان يناقش المنظور الليبرالي للجهاد، والمنظور الماركسي له في العالم الإسلامي بالنسبة للأول، والعالم العربي بالنسبة للأخير.

لأدع الآن مناقشته المنظور الليبرالي للجهاد؛ لأنَّني إلى الآن لم أعرضها لكم.

أعود إلى استكمال نقدي مناقشته المنظور الماركسي للجهاد، فأسأل: لماذا أسلم حروب التحرير في العالم العربي بتسميتها تارة صيغة عصرية للجهاد، وتارة جهاد التحرير، مع أنَّه في مثال الجزائر لم تسم جهة التحرير الوطني الجزائرية حرب استقلال الجزائر، جهاداً في سبيل الله، ولم تسمها حرباً إسلامية على فرنسا النصرانية؟

الجواب: أسلمها لأنَّه كان ممروراً ومحزوناً بأنَّها لم تكن حرباً إسلامية على فرنسا المحتلة بلداً إسلامياً. ومن السهل عليه أن يؤسلم، ما ليس بإسلامي أصلاً. وقد يسّر عليه هذا الأمر أنَّ له تاريخاً قديماً مع الأسلمة. ففي أثناء دراسته بالقاهرة أصدر هناك في عام 1960، كتاباً اسمه «نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة».

أبو سليمان له تاريخ لاحق مع الأسلمة بعد إنجازه رسالته للدكتوراه، كان ذروته ارتباط اسمه مع رفاق له في أميركا من منتصف الثمانينات الميلادية بمسميين شاملين وشموليين، هما: أسلمة المعرفة وإسلامية المعرفة. وللحديث بقية.