د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

الفلسفة وعلاج التطرف

استمع إلى المقالة

تُعَدّ الفلسفة قمة التحصيل المعرفي؛ إذ تطرح الفلسفة الأسئلة المحورية على الحقل المعرفي، وتتحدى متانة استدلالاته، ليبحث طالب العلم في مصادره حتى يجد ما يثبّت أو يدحض ما توصّل إليه. فالفلسفة تحفر في المفهوم البشري للأشياء، وتعيد التفكير في المسلّمات لتقوي الثابت منها وتقصي الموضوع والضعيف. بالتالي، فهي المرجعية الفكرية التي يفترض أن يعرض عليها المتعلمون والمثقفون ما يتلقونه من أفكار.

لفترة طويلة، ظل الخطاب الديني الذي يحيل كل شأن معرفي أو اجتماعي لثنائية الكتاب والسنّة مهيمناً على الساحة، بفعل العنوان المقدس لمجاميع النصوص الدينية، بشكل تعميمي لا يقبل النقاش في التفاصيل. فالمتلقي البسيط يسمع وينصت من دون أن يناقش فكرة الفرق بين النص الديني و«الفهم البشري» للدين! فكثير من محظورات الأمس التي تحولت لمباحات اليوم كانت تستند إلى شرعية «فهم النص» وليس النص نفسه، وليست قضية قيادة المرأة للسيارة بالمثال الوحيد.

لعل أخطر ما عانته مجتمعاتنا من الجمود ورفض قراءة التراث كان التطرف بكافة أنواعه. وإذا كانت الصحوة قد حفزت العنف الفكري، فإن بذرة التطرف بسبب هذا الاحتكار كانت موجودة قبلها بعقود. الفارق أن الصحوة قد حفّزت هذا التطرف ليتحدى الدولة والمجتمع، متذرّعاً ببعض التفسيرات المتعسفة للنصوص الدينية.

ولكن يبقى السؤال: ما الذي تستطيع مناهج الفلسفة تقديمه للمجتمع؟

إن التنشئة الاجتماعية (Socialization) هي عملية تهيئة الفرد ليكون عضواً في المجتمع. وكما نعلم، فإن التعليم هو المؤسسة الثانية -بعد الأسرة- التي تعمل على التنشئة الاجتماعية. وعليه، فإن ما يتلقاه الطالب في المدرسة يشكّل البناء المعرفي الممنهج، في مرحلة التكوين الفكري في فترتي الطفولة والمراهقة. ولسنوات كانت الدروس الدينية مهيمنة على الفصول الدراسية، ليس فقط بعدد الحصص التي يدرسها الطالب؛ بل حتى بدخولها في مناهج المواد الأخرى، مذكرة إياه بالنسق الذي يحكم العملية التعليمية بشكل عام.

إن غياب دروس الفلسفة والمنطق عن العملية التعليمية قد أدى إلى غياب العقل؛ ليس لصالح النقل فقط؛ بل لصالح تفسير فئة محدودة للنقل! فكيف لطالب أن يُعمِل عقله فيما يتلقى، إن لم يمتلك أدوات النقد وعلى رأسها المنطق؟

بناء على مخرجات التعليم في السنوات الماضية، لا نستغرب وجود طلبة جامعيين؛ بل وبعض طلبة الدراسات العليا، لا يفرّقون بين الرأي والمعلومة والادعاء! والخلط بين هذه المفاهيم يقود المتلقي إلى عرضها على محكمة المقدس الذي سيحكم لصالح الاتجاه الأكثر تطرفاً ومزايدة، وهذا ما أدى إلى ارتفاع وتيرة التطرف، من التعنت في ممارسة الحسبة بشكل رسمي أو غير رسمي، وخنق الأفراد في فترة الثمانينات، إلى الانتقال لمواجهة الدولة في التسعينات. فالطالب الذي اعتاد الجلوس على مقعد الدراسة والتلقي دون فلترة ما يسمع، سيمارس الدور نفسه عندما ينضم إلى حلقة دينية أو تجمع شبابي يحمل عنواناً دينياً.

خلاصة القول: إن إدخال الفلسفة للمدارس ليس إلا خطوة أولى، ليمرّن الجيل القادم عقله على النقد، وليمارس إنسانيته بتمييزه بين الدين وفهم الآخرين للدين. وعليه، فإن مناهج الفلسفة -إن تم إحسان صياغتها- ستلقي بظلالها على بقية المناهج الأخرى، وستغير الكثير في عقلية المجتمع الذي يرفض التطرف ويتنزّع نحو تحسين جودة الحياة. ذلك التطرف الذي وإن أصبح يحارب اليوم على الأرض، فإن ظلاله في وسائل التواصل الاجتماعي أقوى من أن ننكرها، وكأن كثيرين يتحينون الفرصة ليعاودوا اختطاف المجتمع من جديد. لذلك أقول: فليتعلم أبناؤنا الفلسفة، ليكونوا منطقيين في خياراتهم، وأحراراً في تفكيرهم.