لطفي فؤاد نعمان
كاتب وباحث سياسي يمني
TT

شماعات... و«نوستالجيا» يمنية

استمع إلى المقالة

حال متابعة سلسلة لقاءات أجراها الأستاذ غسان شربل، متميزاً -من بواكير تجربته الصحافية حتى رئاسة تحرير «الشرق الأوسط»- بتدوين شهادات الساسة «من النهر إلى البحر: من العراق إلى ليبيا، مروراً بالشام»، استوقفني أن عَزّ حضور اليمن. فمتى طَرقتَ باب الشهود عن عهود مضى عليها عقد ونيف من الزمن، أجاب الفاعلون من ساسة وتكنوقراطيي اليمن بالامتناع والتحفظات. قَلَّ أن ينبري أحد منهم بشهادة. كثيرٌ «من يكتمها...».

الخوف والحذر، الافتقار إلى مَلَكة الحكي وموهبة الكتابة، مع شواغل وهموم حياة يومية مصحوبة بإحباط ويأس وخيبة أمل، تُعَدّ من دوافع كتمان الشهادة عن الأحداث والحوادث والشخصيات، فيُعيي المهتمين فهمُ الشأن اليمني الذي يدَّعي كلٌّ فهمه، ويظل ماضيه عرضةً للتفسيرات الشريرة، وحاضره أسيرَ تكرار الأخطاء المريرة.

بعد مضي فترة زمنية، على غرار إتاحة الوثائق للاطلاع العام، تصدر شهادات تُعزّز «استيلاء النقص على جملة البشر» من ضعف ذاكرة، وعدم دقة التواريخ لقلة اهتمام بتدوين اليوميات. كما صدرت مذكرات ولقاءات ثُلة ممن تصدّروا المشهد اليمني، يراها بعضٌ محشوة بسرديات جديدة بعيدة عن ظروف المرحلة المشهودة، مع تنزيه وتبرئة للذات، ووصم كل آخر ومختلِف ونعته بأسوأ النعوت، علاوة على التأثر بدعايات معينة؛ كما تُنْتَقى المواقف والحكايات؛ «لأن من يحكي، لا يحكي كل شيء». كما يتجلى ادعاء المظلوميات ونسج البطولات، واحتكار الحكمة والصواب وتوهّم امتلاك الحقيقة «إلا من رحم ربك» وشاء أداء أمانتهم... على الرغم من هذا فإن ما نُشِر -وإن لم يشفِ غليل المهتمين- يُبَسِطُ فهم تعقيدات ماضي اليمن السعيد وراهنه... بتاريخه!

أما الأحاديث الشفهية المباشرة، مثل بعض الكتابات، فمحكومةٌ بذهنية ومشاعر مقيمة غالباً تحت ظِلال أزمات تُدين استمراريتها كل العهود الماضية الضالعة في خلق تلكم الأزمات، وكذا العهود الراهنة المتورطة في ديمومة أزمات ستظل تصبغ عهود المستقبل الآتية من رَحِمِ سالفاتها.

على الرغم من الأزمات الموروثة عهداً بعد عهد، يسري حنينٌ للعهود الماضية... يتسق منطق الحنين للعهد المفقود مع إمعان النظر في العهد المشهود:

رُبّ يومٍ بكيتُ منه فلما

صرتُ في غيره بكيتُ عليه

هذه «النوستالجيا» اليمنية غير مستجدة، وحاضرة في المذكرات المكتوبة والشفهية... فلما تولى الأئمة حكم شمال اليمن بعد جلاء الأتراك شاع قول: «يا حيانا من التُرك»... وفي أثناء عهد الجمهورية شمالاً تذكروا حكم الأئمة، بسلبياته... وعقب الاستقلال جنوباً عن الإنجليز ترحّموا على الاستعمار، بسيئاته... وبعد الوحدة حنّوا إلى التشطير، بمراراته...!

في أثناء الحرب والفوضى، يغدو معقولاً ومقبولاً التوق إلى السلام و«الاستقرار النسبي» لحسناته.

مسلسل الحنين أو «النوستالجيا» المستديمة تنافسه سلسلة «الشماعات، والجدران القصيرة» المستديمة هي الأخرى؛ فعلى تلك الشماعات والجدران القصيرة أخذ كل عهد -مشطراً كان أم موحداً، مستقراً أو مضطرباً- يعلّق -حقاً وباطلاً- مبررات التقصير.

طيلة القرن العشرين بتحولاته، من إمامة إلى جمهورية، من استعمار إلى استقلال، ومن تشطير إلى وحدة، أمضى ساسة اليمن يعلّقون مشاكلهم الداخلية على شماعة الخارج، ويستندون إلى جدران الظروف القديمة؛ أما القرن الحادي والعشرون بتحولاته من نظام إلى فوضى، ومن استقرار إلى حرب، فلن ينقضي دون استغلال هذه النعمة الوفيرة، لأن مصانع الساسة والميليشيات دائمة الإنتاج للمبررات المُستَهلَكة (...).

غير مستغرب بتاتاً إلقاء أسباب أزمات الداخل على شماعة الخارج وجدران الظروف القديمة، مثلما لا يُستغرب إرجاء المعالجة، ومن ثم لا يُضاف الجديد الملموس إلى رصيد الأمجاد التاريخية... القديمة، لفقدان ذاكرة و«إرادة» تَحَمُل الواجبات الأساسية تجاه مستقبل اليمن واليمنيين.