عشية انهيار جدار برلين، انسحبت القواعد العسكرية الأميركية من مضيق فولدا، شرق ألمانيا الغربية، وأغلقت معها عشرات المطاعم والفنادق والمواخير. بالنسبة لأهل المدينة، بدا أن التاريخ قد توقف في تلك اللحظة. فلقد علّمتهم دروس التاريخ أن مضيق فولدا كان العتبة الأكثر استراتيجية على حافة حلف وارسو وشرق أوروبا. وعلى مدى 5 قرون كان محور الصراع ونقطة عبور لجيوش الغزاة ذهاباً وإياباً.
من فولدا، يمكن أن نلتقط عينة غنية من تاريخ أوروبا، لندرك حقيقة أن هذه القارة لم تنعم بالسلام لـ5 قرون إلا تحت أحد ظرفين، أولهما دبلوماسية ألمانيا التي نسجت سلاماً بيدي مترنيخ وبسمارك امتد لـ99 عاماً (1815 - 1914)، نجح في موازنة أعمدتها الاستراتيجية الأربعة؛ بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا. والظرف الثاني بعد الحرب العالمية الثانية، عندما احتلت كل من روسيا وأميركا الأراضي الأوروبية، إلى أن انهار جدار برلين.
سوى ذلك، أنجبت اللوثة العصبية القومية والإثنية في أوروبا أشنع الحروب وأشدّها وحشية في التاريخ. وقتل الأوربيون وسلخوا وأحرقوا فيما بينهم أكثر مما فعلوا في المستعمرات عشرات المرات.
نعم، بدت مغادرة جزء كبير من القوات الأميركية لأوروبا بعد سقوط جدار برلين كأنها لحظة توقفت فيها ساعة الحروب الأوروبية.
فرغم توحيد ألمانيا، وتوسيع الاتحاد الأوروبي، وانفكاك كثير من الدول عن الفضاء السوفياتي، فشلت أوروبا في تأسيس سلمها الداخلي وهويتها الجامعة، داخلياً وخارجياً.
لكن، في عالم ما بعد الحرب الباردة، عاد مثلث فايمار كمنصة لاستقرار أوروبا، فكرة فرنسا وألمانيا وبولندا. لكنها بقيت فكرة نظرية! إذ أرادها الألمان فضاء اقتصادياً، وأرادها الفرنسيون فضاء أمنياً للسلم الأوروبي، وأرادها الآخرون، كل على هواه.
وسرعان ما جرفت عجلة الصراعات القومية البنية الأوروبية فكرة فايمار بعيداً. وكان الفشل الأوروبي، وخاصة الفشل الألماني والفرنسي، في إنتاج منظومة أوروبية مستقلة تتجاوز النزعات والأولويات الوطنية الضيقة، وتتجه لتوحيد التوجهات في السياسة الخارجية لتصبح الخلافات السياسية هي الحاكمة، فيما عوملت بولونيا طويلاً كساحة ثانوية، أما بريطانيا فسيرتها أكثر عبثية.
كان كل ذلك، إلى أن اندلعت الحرب الأوكرانية. وإلى أن برز احتمال إحجام أميركا عن تحمل عبء الدفاع عن أوروبا.
ولا شيء يوحد أوروبا تاريخياً مثل الخطر. ولتكتشف أوروبا مرة أخرى أن جلوسها أثناء العواصف الرعدية، تحت الشجرة الأميركية، ليس أفضل الخيارات.
على خلفية حرب أوكرانيا، وتحولات أميركا، وبعيداً عن حماقة اليمين وسذاجة الخصر، استيقظت مؤخراً، ومن جديد، فكرة مثلث أو مربع فايمار. فلقد أجبرت الأحداث الإخوة الأعداء الأوروبيين على النزول في خندق واحد.
وبدل الحديث عن مجرد التعاون الاقتصادي والأمني، قررت الدول الثلاث، فرنسا وبولونيا وألمانيا، البدء في تطوير استراتيجيات دفاعية وصناعات عسكرية مشتركة. وإذ يتركز العمل بين هذه الدول الآن على تطوير صواريخ كروز بعيدة المدى (2000 كيلومتر)، تتضح جلياً النظرة الألمانية الجديدة التي ترفض أن تتخذ أوروبا موقفاً دفاعياً أمام روسيا، نظراً لما تملكه روسيا من موارد في المواد الأولية والبشر، لتعتمد بدلاً من ذلك الردع الهجومي.
وليس هذا إلا أول الغيث، إذ يجري تطوير ومراجعة أوسع لمجمل البيئة الاستراتيجية لوسط أوروبا، حتى على المستوى المفهومي، فيما يتعلق بالردع الهجومي لمنع وصول روسيا إلى فجوة فولدا.
وبعد أن أوضحت التحولات العاصفة والجذرية في العالم عقم وعطالة السياسات الأوروبية السابقة، يقود وزير الدفاع الألماني، بيستوريوس، هذا التحول بشكل خاص. إذ يبدو أن البولونيين يعتقدون أنه لو سقطت كييف فسيكونون التالين، كما يخشى الألمان أنهم سيتبعون البولونيين.
لكن كثيراً من الخبراء الاستراتيجيين يجدون أنه حتى لو تمكن المثلث من التوصل إلى ردع هجومي مثالي، فإن مطال هذا الردع يبقى قاصراً عن ردع القوات والقاعدة الصناعية الروسية، التي تنتقل لما وراء جبال الأورال. لذلك، وفي ظل إحجام أميركا، يتطلع كثير من الخبراء الأوروبيين نحو أوكرانيا.
يفتح هذا أحد سيناريوهين، فإن استمرت الخصومات مع روسيا فقد نشهد مزيداً من الحروب بين الأقوام السلافية، وقد تواجه روسيا حدوداً شاسعة محصنة مع تحالف فايمار الرباعي.
وبالمقابل، بحسب الرؤية التاريخية لكيسينجر، إن جنحت الأحداث نحو السلام مع روسيا، ونحو سلم أوروبي جديد، يمكن أن يسمح دمج أوكرانيا وتحصينها استراتيجياً في تحالف فايمار بتأسيس سلام أوروبي يقوم على دمج روسيا أيضاً.
لذلك، ثمة 3 سيناريوهات تعتمد كلها على مقدار حكمة السياسيين الأوروبيين؛ أن يمهد تحالف فايمار لمزيد من الحروب إلى أن تعقل أوروبا ذاتها، أو أن يتحول تحالف فايمار لمنصة تجذب روسيا للركون للسلام، أو أن تستمر أوروبا في جرّ العالم لصراعاتها البينية الكارثية.