تصفحتُ كثيراً من المناهج الدراسية في بلدان عربية عديدة فلم أجد فيها ما يعطي «لفضيلة الإنصات» حقها اللائق من الاهتمام بقدر ما أعطيت مهارة الكلام. دراسات عديدة تشير إلى أن الاستماع أكثر مهارة تواصلية نمارسها. ففي كتابي «أنصت يحبك الناس»، ذكرت أن الناس تقضي 40 في المائة من أوقاتها في الاستماع، و35 في المائة في التحدث، و16 في المائة في القراءة، و9 في المائة في الكتابة.
في سلسلة كتبي بعنوان «فضيلة الإنصات المنسية»، ذكرت جانباً من عشرات الدراسات التي اطلعت عليها والتي قاست أوقاتنا في مهارات التواصل الأربع (استماع، وتحدث، وقراءة، وكتابة) فوجدت أن النسب متغيرة لكن جلها يميل نحو حقيقة لم يستوعبها مجتمعنا وهي أن الاستماع الأكثر ممارسة من غيره في الحياة والعمل والدراسة. نعم نحن في الواقع «نسمع» أكثر مما نتحدث، ولكننا لا «ننصت» بكل جوارحنا. فشتان بين أن أنصت بعمق وتركيز وصدق وبين «الاستماع» الذي قد يخالطه انشغال أو تصنع.
أدبنا العربي يزخر بشواهد تؤكد أن العربي يمتلك أذناً قوية. ولولا هذه الفضيلة لما وصلتنا ملايين الأبيات الشعرية التي دخلت في عقولنا واستقرت في وجداننا من بوابة الأذن. ولولا أذن العربي لما كانت هناك «سوق عكاظ» أصلاً وهي سوق الآذان الصاغية. ولولا وجود الآذان المرهفة لما تجرّأ شاعر أن يقف ليلقي قصيدة.
عندما جمع الباحثون عشرات المهارات ليكشفوا لنا ما الأكثر تأثيراً وأهميةً للقائد، تربعت فضيلة الإنصات على رأس القائمة في دراسة شهيرة.
خطورة الافتقار إلى أذن صاغية توقعنا في خطأ الفهم، والتسرع في الحكم، وإلقاء اللائمة على المتحدث قبل أن يكمل تبريره.
من أكثر أخطائنا، إصرارنا على مواصلة الحديث مع شخص لا يكترث لكلامنا. ولهذا يقول الجاحظ: «لا تبقَ في المكان الذي لا تعرف فيه قيمتك». وهذا ما يجعل العرب يرددون المقولة الشهيرة: «لا تُطعِم طعامك مَن لا يشتهيه». أي «لا تُقبِل بحديثك على مَن لا يُقبِل عليك بوجهه».
مشكلة الشاب تبرز حينما يعتقد أنه لم يعد بحاجة إلى تجارب الآخرين ولا إلى الإصغاء لحكم مَن سبقوه في مناحي الحياة. فكم من معلومة عابرة مدّت لنا جسوراً نحو مبتغانا، واختصرت أوقاتاً طويلة كان يمكن أن تهدر. عندما يعي الشاب والإنسان عموماً أن أكثرنا إنصاتاً أكثرنا معلومات وإدراكاً لطبيعة مَن حوله يبدأ منسوب الوعي لديه بالارتفاع. ويتحلى بالمقدرة على التحدث على نحو يثير اهتمام من حوله. ولذلك ينقل لنا الجاحظ في كتابه الماتع «البيان والتبيين» نصيحة عمرو بن عُبيد: «مَن لم يُحسِن الاستماع لم يُحسِن القول».
ستبقى فضيلة الإنصات فعلاً هامشياً ما لم تنعكس في سلوكيات المعلمين والقدوات المجتمعية والأسرية، وما لم تأخذ طريقها نحو عرض عصري وتفاعلي وشائق في مناهجنا.