في شهادته مؤخراً أمام الكونغرس، شدَّد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي على ازدياد خطر العنف من جانب المنظمات الإرهابية الأجنبية، لا سيما في ضوء الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط. وأشار راي إلى أن جماعات إرهابية مختلفة دعت إلى شن هجمات ضد الأميركيين وحلفائهم. وطالب، ضمن قضايا أخرى، بإعادة تفويض المادة 702 من قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية (FISA)، بوصفها أداة حاسمة لمكافحة الخصوم الأجانب ومنع الأنشطة الإرهابية.
الحقيقة، أن مئات من الأبحاث الحديثة حول الإرهاب، تنبئنا بشكل مباشر وغير مباشر بعودته الحتمية. ولعل من أهم هذه الدراسات كتاب قرأته مؤخراً، بمتعة كبيرة، «أوراق بن لادن» عن جامعة «Yale» للباحثة نيللي لحود. وتعكس الدراسة خلاصة عشرات الآلاف من الصفحات والوثائق الأصلية التي عُثر عليها في منزل بن لادن بعد مقتله، لتُشَرِّح عقل صاحبها بدقة مخبرية فريدة.
بالمقابل يمكن أن نستنتج من هذه الأبحاث أنه في ظل الخواء الروحي والفكري الأميركي بعد الحرب الباردة، وبذريعة الحرب على الإرهاب، قامت الولايات المتحدة بعمليات عسكرية وحروب، نجم عنها كوارث، ليس على دول وشعوب الشرق الأوسط وحسب، بل وعليها هي بالذات، حيث قلما تجد باحثاً واحداً في واشنطن، يتحدث الآن عن أي نصر في أفغانستان أو العراق. ورغم ذلك، فبذريعة الإرهاب، مارس الغرب على دول منطقتنا ابتزازاً سياسياً واقتصاديا كاسحاً.
والآن، يعمي التصاعد الجديد للميول العنجهية القومية في المجتمعات الأوروبية هذه الدول عن تطوير رؤية عميقة لمتطلبات هزيمة الإرهاب. إذ تشير تقارير البنك الدولي، (الراصد الاقتصادي- أكتوبر/تشرين الأول 2020)، بوضوح لفشل سياسة الغرب في مكافحة الإرهاب. فهي تركز في العديد من المواقع على حقيقة أن المصادر الغربية «المختصة بمكافحة الإرهاب» تتجاهل بشكل غريب يدعو للتساؤل حول مركزية المظالم الوطنية والمجتمعية والسياسية عميقة الجذور في الشرق الأوسط.
وكما تثبت «وثائق بن لادن» بجلاء، فلقد تضافرت جهود الإرهاب «الإسلاموي» مع الابتزاز والضغوط الغربية على الدول العربية بحجة مكافحة الإرهاب. وسرع تضافر هذه الجهود في تقويض العديد من الدول في الشرق الأوسط، وزعزع بنيان العديد منها، وأضعف قدرتها على مكافحة الإرهاب.
والآن، في حين تتعمق المعضلة التنموية، والصراعات المحلية، وتتوسع دوائر الدول الفاشلة، ويتصاعد بشراسة صراع العصبيات الدينية والقومية وتناحر الهويات، تختمر الأزمات المعقدة وتتواصل كالأواني المستطرقة في الإقليم.
بل تتحفّز قوى إقليمية ودولية للصيد في مياه الشرق الأوسط، في سياق الحرب الباردة الثانية الصاعدة في العالم، وتتقاطع مصالح هذه القوى في تأبيد الصراعات والفوضى في الإقليم، وتنمو مخاطر أن يتحول الشرق الأوسط من جديد لثقب أسود يسوده عدم اليقين والاضطراب.
فلو اتفقنا على أن الفطر الإرهابي لا يهطل من المريخ، نصل لحقيقة واحدة، وهي أن الاحتدام الراهن في الشرق الأوسط، الممتد لوسط وجنوب شرقي آسيا والقفقاس إلخ... قد يجعل شرق آسيا بأسره برميل بارود جاف، لا تنقصه إلا شرارة من أحمق واحد. وما أكثر المستفيدين من هذه الحماقة.
من الطريف والمؤسف معاً، أنه بعد أكثر من ربع قرن من عملية البرجين، تبدي الأوساط السياسية الغربية ذات اللوثة العقلية، الأمنية والسياسية، في مقاربتها لقضايا المنطقة ولقضية الإرهاب من حيث غياب الرؤية الاستراتيجية.
إذ تمضي هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة قدماً، في ازدراء أبسط مقومات القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، تصبح ذريعة مكافحة الإرهاب، أداة لترويج منهج القتل الجماعي، وإضعاف وتفكيك المؤسسات الدولية وتعطيلها. بل تكشف مواقع الإرهابيين عن أنه ليس ثمة مناخ أكثر إثارة لشهيتهم من الواقع الراهن المتفجر في المنطقة. ليصبح الإرهاب أكبر خدمة للقوى المتطرفة والانتقامية العقائدية بمختلف أشكالهم وأسمائهم.
لا تبدو مخاوف كريستوفر راي مفاجئة أو غريبة أبداً. لكن التحدي الأهم سيكمن فيما إذا كانت الولايات المتحدة قد تعلمت أي شيء من معركتها ضد الإرهاب، أو أنها امتلكت مقاربة نوعية مختلفة لمجمل الوضع الاستراتيجي في الإقليم.
وإذا قبلنا أن الإرهاب هو نوع من الحرب اللامتناظرة المديدة، ندرك خطورة النمو المتسارع لقدراته العملياتية. فليس الأمر متعلقاً بالتجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا على المسيرات، ولا تقنيات توجيه الصواريخ المتوسطة والصغيرة، ولا على العملات الإلكترونية وساحات الجرائم الإلكترونية، بل الأخطر على الإطلاق هو الذكاء الاصطناعي والخوارزميات التي تتبرعم في الفضاء الإجرامي، لتتيح بشكل متسارع إمكانات هائلة لتطوير العمليات الإرهابية.
أمام هذه اللوحة يصبح من المهم جداً للدول العربية تعزيز إمساكها بزمام المبادرة الاستراتيجية في الإقليم، إذ إن قوى الشر والإرهاب في الإقليم تتخادم وتتحفز لجولة جديدة!