هل هناك فجوة جيلية بين العاملين في صناعة الإعلام العربية؟ وهل تتحوّل هذه الفجوة قطيعة في بعض الأحيان؟ وكيف يمكن أن تتضافر الأجيال ضمن تلك الصناعة لتستفيد من سماتها المتباينة، وخبراتها المتنوعة، ومهاراتها المُتغيرة، بما يمكن أن يرفد الإعلام العربي بأسباب الاستدامة والتطور؟
كانت هذه بعض الأسئلة المطروحة للنقاش، في جلسة «جيل مُخضرم وجيل شاب»، التي انعقدت ضمن فعاليات «منتدى الإعلام العربي الـ23» في دبي، خلال الأسبوع الماضي، وَسَعَت إلى حسم جدل لا ينقطع حول الطريقة التي يمكن من خلالها أن يستوعب الإعلام العربي هذا التمايز الجيلي بين العاملين فيه، بما يخدم رسالته، ويعزّز استدامته. لقد حرصت إدارة المنتدى على أن توفر لهذه الجلسة أربعة من المتحدثين، الذين ينتمي اثنان منهم إلى جيل «المخضرمين»، بينما ينتمي اثنان آخران إلى جيل الشباب، وهو الأمر الذي عزّز توقعات بأن تتحوّل الجلسة اشتباكاً يُكرّس فكرة الفجوة الجيلية، حيث ينتصر أبناء كل جيل للجيل الذي ينتمون له، ويدافعون عن دورهم وأهمية مساهمتهم، وربما أيضاً يغمزون من قناة الجيل الآخر، عبر تعيين نقاط ضعفه وملامح قصوره.
لكن ما جرى خلال هذه الجلسة لم يكن كذلك على أي حال، فقد بدا أن هناك توافقاً بين المتحدثين على أن كل صيغة تقنية جديدة تطرأ على صناعة الإعلام، تُحدث تغييراً فارقاً في وسائلها وأدوات عملها، وبينما يظل الثابت في هذه الصناعة منحصراً في إنتاج المحتوى، ثم توزيعه عبر الوسائل التي تصل إلى قطاعات الجمهور المُستهدف بسلاسة وفاعلية، فإن تلك الوسائل تتغير ومعها أساليب الإنتاج وسمات المُنتج.
من جانبي، كان حديثي في تلك الجلسة منصبّاً على توضيح أربعة أخطاء شائعة تؤدّي إلى تكريس مفهوم الفجوة الجيلية، وربما القطيعة الجيلية، في صناعة الإعلام، على عكس ما يجب أن يكون.
أما الخطأ الشائع الأول، فيتعلّق بآلية إنتاج «الرموز والأساطير» في صناعة الإعلام، وهي آلية تعمد إلى خلق صورة عن بعض رموز تلك الصناعة من الأقدم والأكبر سناً بطبيعة الحال، بوصفهم أفضل وأمهر وأعلى مهنياً وأخلاقياً، وفي تلك الآلية تكمن مشكلات كثيرة، لأن القديم به الغث والسمين.
ويتصل الخطأ الثاني بفكرة مثالية عن الأسلاف نجدها في زوايا مختلفة من الثقافة العربية عموماً، وهي فكرة تسعى إلى اعتبار كل قديم مُجيد بالضرورة وجدير بالاقتداء بالضرورة، وأنه حدث مرة ولن يحدث مرة أخرى أبداً، وهو أمر خاطئ بكل تأكيد لأن هذا القديم هو ابن عصره وسياقه، وقد انطوى على مثالب بقدر ما تضمن إشراقات.
ويجسد الخطأ الثالث فكرة القطيعة الجيلية نفسها، ويَعد فكرة تضافر الأجيال ضمن صناعة الإعلام صعبة أو مستحيلة، عبر التركيز على الفوارق الكبيرة بين الطريقة التي يتعاطى بها الإعلاميون الأكبر سناً مع صناعة الإعلام، وإبراز افتقارهم لمهارات تقنية حيوية وأساسية لممارسة العمل الإعلامي في صيغته الحالية، وعدم قدرتهم على تطوير تلك المهارات، في مقابل ما يشيع عن افتقاد الأجيال الأصغر سناً لكثير من مبادئ المهنة وأخلاقياتها، وتعويلهم الشديد على فكرة الرواج في مقابل فكرة القيمة.
وأما الخطأ الرابع، فيتعلق بفكرة شائعة، خصوصاً لدى الأجيال الأكبر سناً، بأن الشباب الأصغر سناً من أبناء الصناعة منقطعون عن المعارف الأساسية والثقافة الرصينة، ومأخوذون بالرغبة في الظهور عبر لفت الأنظار من خلال المقاربات الحادة و«الحريفة»، وأن التقنيات الحديثة في الوسط الاتصالي الراهن تتحكم في المحتوى الذي يقدمونه، بما يحوّلهم لخدمة رغبات الجمهور المتعجل، أكثر من الإخلاص لمبادئ الصناعة وقيمها المُعتبرة.
إن تلك الأخطاء كلها تتضافر لتقديم إجابة خاطئة عن السؤال المركزي الذي سعت جلسة «جيل مخضرم وجيل شاب» للإجابة عنه، لأن الواقع ليس على هذا النحو من الحسم القاطع، الذي يستسهل إثبات القطيعة والتنافر، بل إن فيه الكثير مما يمكن أن يؤسس لعلاقة تكاملية تستفيد من سمات الجيلين، وتعزز إسهام كل منهما.
ثمة تباين بين جيلين رئيسيين يعملان في صناعة الإعلام العربية راهناً، والسبب الرئيسي في هذا التباين إنما يعود إلى فكرة تعاقب الأجيال وتمايزها من جانب، وإلى التغير الحاد والفارق في آليات إنتاج المحتوى الإعلامي وتوزيعه، في العقدين الآخرين خصوصاً، من جانب آخر.
أما أفضل ما يمكن فعله إزاء هذا التباين، فليس تكريس القطيعة أو توسيع الفجوة أو تمييز الجيلين وفرزهما، وإنما أن يتضافر الجيلان عبر استخدام أفضل ما يملك كل منهما، من أجل تعزيز تلك الصناعة وترشيد تطورها وضمان نموها.