العقد الثالث من هذا القرن زمن يهتز فيه العالم، وتعلوه سحابات الدم وأصوات العداوة، ورعشات الخوف العابرة للقارات. ما يتدفق من تحليلات وتوقعات عما يحمله القادم من الأيام، من تهديد للطبيعة، وما تعيشه بلدان كثيرة من جفاف وفيضانات، يجعل المستقبل طوفان خوف يحاصر الآمال، ويرفع دقات التوجُّس المرعب. الحروب لعنة يحملها الإنسان في كيانه المركب. تملأ دنيا اليوم الأخبار، عنفها يرتفع ويتسع. السلاح صار من المخلوقات التي يبدعها علماء الفناء. أعداد القتلى والجرحى التي تتسابق وسائل الإعلام على بثها، تدخل البيوت مع أخبار المباريات الرياضية، ومسابقات ملكات الجمال، وشطحات الموضة. القتل تحاصرنا أدواته التي تنبت كل يوم في العقول، وتُزف إلى المصانع. الطائرات المسيرة كتلة بكماء، تحمل الموت الغبي الذي ترسله أيدٍ وعقول تحتفي بمهرجانات الموت. في غزة يتابع العالم مهرجان إبادة لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، وزمن الدمار يهوي على الحجر والشجر، والمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات. الجوع والأمراض والعطش سلاح إبادة شامل، وكأن شيئاً لم يكن. في أوكرانيا تلتهم الصواريخ والطائرات المسيرة أرواح وأجساد البشر، والتهديد بتوسيع الحرب يلامس حافة التلويح بالسلاح النووي. الحروب الأهلية التي تعصف ببلدان عديدة، والأعمال الإرهابية، والجرائم الجماعية والفردية، وأعمال العنف ضد النساء. الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، دفعت إلى الدنيا العضلات الحديدية، وأكملت سيطرة البشر على الطبيعة، وتقهقرت المسافات، وولد إنسان آخر، له من الأحلام والآمال ما يبشر بولادة بشر آخرين يقدسون الحياة الجديدة، ويركضون نحو تأسيس عالم سلام ورفاهية، لكن العنف الأناني كان أقوى. ظهر الإنسان الاستعماري الذي يُعلي المصالح الذاتية على الحياة. الحروب تنوعت، من أهلية إلى إقليمية ودولية، والدم صار وقود آلة القوة والسيطرة. أصبح هناك مَن يعشق الموت، لأن الحروب تحقّق له ما يحلم به من سيطرة مريضة ومصالح أنانية.
الفيلسوف الألماني إيريك فروم، الذي جمع بين التاريخ والفلسفة وعلم النفس، وكان من أبرز مفكري مدرسة فرانكفورت، غاص في أعماق الإنسان دراسة وتحليلاً. فكك رحلة الإنسان في محيطات الزمان وبحوره وأنهاره وفوق سطح الحياة بكل تجلياتها وتقلباتها. في كتابه: «جوهر الإنسان»، وقف إيريك فروم عند محطات في التاريخ، ظهرت فيها خبايا المكونات التي تكشف جوهر الإنسان، وعلاقة القوة بالموت والحياة.
النيكروفيليا تعني حب الموت، مقابل البيوفيليا، وتعني حب الحياة. وقف فروم عند خطاب لجنرال إسباني أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي. محبو الموت كان لهم مريدون متعصبون. كان الحب الشديد للموت يجذب الأتباع الذين يركضون وراء قادتهم بعيون عمياء، وعقول متحجرة. النيكروفيليون يحبون كل شيء لا ينمو، ولا حياة فيه. في وقفة مكثفة الدلالة، أورد المؤلف عبارات للفيلسوف الإسباني أونا مونو. كانت المناسبة خطاباً ألقاه الجنرال ميلان أستراي في جامعة سالامانكا الإسبانية. كان شعار الجنرال المفضل - يحيا الموت - وقد هتف به أحد أتباعه. وعندما انتهى الجنرال من خطابه، نهض أونا مونو وقال: «لقد سمعت بكاء نيكروفيلياً أحمق؛ يحيا الموت»!! هنا وقف الجنرال ميلان أستراي وصرخ: «يسقط العقل. وردد هتاف جنوده: يحيا الموت».
ثنائية الحياة والموت؛ ذاك السر المتفجر الرهيب الذي يعيش في صيرورة التاريخ المتحرك. البناء والتشييد والصناعة، ذلك أمر يرتفع في المعمورة، لكن صنوه الذي يحذوه من دون توقف هو الاختراع المتنوِّع لآلات القتل الفردي والجماعي. حب القتل هو حب الموت الكامن في النفس البشرية. النيكروفيليا هي حب القوة التي تحيل الإنسان إلى جثة، وهي تعتقد أن القتل هو التعبير المطلق على القوة. والشخص النيكروفيلي هو المنجذب نحو كل ما ليس حياً، وكل ما هو ميت؛ الجثث، التحلُّل، القذارة. النيكروفيليون يعشقون الحديث عن المرض، عن الدفن والموت، وهم يشعرون بالحياة والسعادة عند الحديث عن الموت.
يقول الفيلسوف إيريك فروم إن أدولف هتلر مثال واضح على النمط النيكروفيلي الكامل؛ لقد كان مفتوناً بالتدمير، ورائحة الموت، وكأنها لذَّة بالنسبة إليه. لقد كان يعشق تدمير الشعب الألماني وتدمير نفسه ومَن حوله. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، رأى جندي هتلر واقفاً في حالة نشوة، محدقاً في جثة متعفنة، ولا يريد الابتعاد عنها.
جيم جونز الذي قاد أكبر عملية انتحار جماعي في التاريخ، وذلك سنة 1978، في معبد الشعب بغويانا، وقام قرابة ألف شخص بتجرع السم، في حفل انتحار جماعي.
تلك التشوهات الرهيبة هي جلطات قاتلة في جسد الإنسانية، عبر صيرورة التاريخ الطويلة. هل ستزول جلطة «يحيا الموت»؟